الثنائيات في القرآن الكريم.. الإنس والجن أنموذجا

أ.د. عائد كريم الحريزي

قران

 

في القرآن الكريم كلمات ترد مقرونة بغيرها تسمّى الثنائيات، يقدّم بعضها على الآخر في مواضع مختلفة، ومن تلك الثنائيات: السماوات والأرض، المال والبنون، السمع والأبصار والأفئدة، الجنّة والنار، الخير والشرّ، سميع عليم، حكيم عليم.
وقد اخترنا من هذه الثنائيات أنموذج: (الإنس والجنّ) لندرس أسباب تقدّم أحدهما على الآخر في مواضع مختلفة من القرآن الكريم.

 

جاءت كلمة الإنس في القرآن 18 مرة مقرونة بكلمة الجن، ووردت كلمة (الجن) مقرونة بالإنس او غير مقرونة بها: 22 مرة، ووردت كلمة (جان) سبع مرات، أربع غير مقرونة بالانس وثلاث منها مقرونة بهم، ومقدم فيها الإنس على الجان: (فَيَوْمَئِذٍ لَّايُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) (الرحمن/39) واللافت أن (الإنس) قد تقدم على (الجن) في ستة مواطن من أصل 18 اقترنت بها، وقدّمت كلمة(الجن) عليه في 15 موطنا، أما عند اجتماع (الإنس) بـ(الجان) فيقدم (الإنس) دائما.
وعلة ذلك ان الحديث إذا كان عن الإنس يقدم على الجن واذا كان عن الجن فيقدم على كلمة الانس، ومثل ذلك يقال في تقديم السماوات على الأرض، أو تقديم الأرض عليها.
مواضع تقدم الانس على الجن:
والمواضيع التي يقدم فيها الإنس على الجن تأتي عند الحديث عن عداوة الإنس للأنبياء لأنهم هم الذين بُعث اليهم الانبياء ليعظوهم ويرشدوهم ويبلغوهم أمر الله ومراده، والناس هم المكذبون لرسلهم، وهم المنافقون الذين يقتلونهم او يحاولون قتلهم، وهم الذين يقاطعونهم ويظاهرون الناس عليهم، وعليه فالإنس في هذا الموضع هم الأهم وهم قطب الرحى الذي يدور الحديث حوله، فيقدم الإنس في هذا الموضع لأنهم هم المعنيون في الإصلاح والإقناع والهداية. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام/112).
وعند الحديث عن عجز الإنس والجن عن الإتيان بكتاب مثل القرآن الكريم أو أسلوبه لانهم قالوا انه أساطير الأولين وانه شعر أو انه من أسجاع الكهان، قال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا)[الإسراء/88].
وفي عدم المساءلة عن الذنوب قال تعالى: (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ* فَيَوْمَئِذٍ لَّايُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ*)[الرحمن/37 ـ 39] فقد قُدّم الإنس على الجان في الاية لأن الرسول(صلى الله عليه وآله) جاء لهداية البشر، وهم أصحاب القضية، فقدّموا لأن السياق سياقهم ومن أجلهم، وتذكيرا لهم بأن الأمر حق ووعد صادق، فلا بد من حصوله.
وفي سياق نظافة نساء الجنة من الفساد والدنس والطمث، تحدث سبحانه عن صفة الحور العين قائلا: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَاجَانٌّ)[الرحمن/56] فقدم الإنس على الجان لأنهن خلقن للإنس ولم يخلقن للجان، ووعد الله المؤمنين بهن في القرآن الكريم في آيات عدة، فالأولى إذاً أن يقدم الجنس الذي خلقن له ومن أجله، وهو الإنسان.
وفي أسلوب التعوّذ بالجن قال الآلوسي: كان الرجل من العرب اذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته: (يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك) يريد الجن وكبيرهم، ولما جاء الإسلام قال الرسول(صلى الله عليه وآله): (وإذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن فتن النهار، ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير).
وقد ذكر الله سبحانه ذلك فقال: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى الله كَذِبًا* وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن/5-6] والأقوياء هم الذين يعاذ بهم ويلجأ اليهم، والجن هم الأقوياء وضعاف النفوس من الناس هم القائلون على الله كذبا لأن قول الجن غير مسموع، فلذلك قُدموا على الجن في الآيتين.
مواضع تقدم الجن على الإنس:
أما المواضع التي يقدم فيها الجن على الإنس فمنها الموضوع الذي يُستنكر فيه على الجن استكبارهم وإغواؤهم الإنس، لأن الجن هم الذين يغوون الإنس ويجعلونهم يحيدون عند طريق الحق، وهذا ظاهر في قول إبليس: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(ص/82) لذلك قدم الجن في قوله: (وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ)(الأنعام/128)، لذلك فهم المقصودون بالنداء التقريري بأنهم هم الذين استكثروا وتفننوا في إغواء الإنس، والمنادى هو المقدّم، والجن هم المقصودون بالنداء والنهي، فقدموا لذلك في قوله تعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ)(الأنعام: 128).
وهنالك التقديم بحسب القدم: فالجن كما ذكر القرآن الكريم اقدم خلقا من الإنس، يدل على ذلك امران هما: ان الله سبحانه اخبر بذلك في قوله: (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ)[الحجر/27].
أما الدليل الآخر فهو امتناع إبليس عن السجود لآدم الذي خلق بعده، قال تعالى: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف/50].
وهنالك التقديم بحسب القوة، لأن الجن أقوى من الإنس في بعض الامكانات، يدل على ذلك قوله تعالى: (قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)[النمل/39]. لذلك قُدّموا نظرا لقوتهم في قوله تعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَاتَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)[الرحمن/33].

نشر في مجلة الولاية العدد 79

مقالات ذات صله