تاريخ الصحن الحيدري الشريف

.بعد التعديل

د. صلاح الفرطوسي

لم يكن الصحن الحيدري الشريف طريقا لمرور الزوار الى الروضة الطاهرة، أو فسحة يستريحون فيها من عناء التعب فحسب، وإنما هو مكان تؤدى فيه صلاة الجماعة في المغرب والعشاء في الأجواء المناسبة، وتؤدى فيه الصلاة على الأموات وتقام فيه أيضا صلاة العيدين، ويؤم المصلين في العادة عدد من كبار علماء الدين، أما صلوات الفجر والظهر والعصر فتقام في الحضرة المقدسة، واتخذه بعض أساتذة الحوزة مكانا لتأدية الدروس، وبعضهم يؤديها في أحد أواوينه، وكانت تقيم فيه بعض الأسر أيضا الفواتح ليلا حتى سبعينيات القرن المنصرم.

 

ان صحن المرقد وغرف السور المواجهة له جميعها، وكذلك أروقة المرقد كلها قائمة على مجموعة كبيرة من السراديب ـ وهي أبنية أو غرف تبنى تحت الأرض للهرب من حرارة الصيف ـ المليئة بالقبور، وليس صعبا على المتأمل ان يتخيل ان المرقد قائم على آلاف مؤلفة من الأجساد التي دفنت فيه منذ عصور متعاقبة، بل ان آبار الصحن القديمة ملئت بعظام الموتى وأجسادهم البالية التي كانت في سراديب الصحن القديمة بعد أن أمر السلطان عبد الحميد بقلع بلاط الصحن القديم وإعادة فرشه ببلاط جديد سنة 1315هـ/1897م.
وقد ذكرهم كاظم عبود الفتلاوي في كتابه (مشاهير المدفونين في الصحن العلوي الشريف) وكانت غالبيتهم ممن دفن في القرن الماضي، وفاته ذكر آخرين يصعب احصاؤهم، أما العدد الحقيقي فلا يعلمه إلا الله ولاسيما اذا قدرنا ان الدفن بدأ بصورة فعلية في أواخر القرن الثاني أو أوائل الثالث الهجري، ولم يتوقف الا منذ عقدين او أقل خوفا على المرقد من السقوط، لذا فإنه من الصعب ان نتخيل الأعداد الهائلة التي دفنت فيه خلال القرون الماضية.
أما مساحة الصحن فقد ذكرت الدكتورة سعاد ماهر في صحيفة 159 من كتابها(مشهد الامام علي في النجف) انها تقرب من ثمانية آلاف متر مربع، وكانت (جهته الغربية تظلها سقيفة مرتفعة يتوسطها عقد نصف دائري كبير، كان يشغل جزءً منها باب يفضي الى الرواق، وقد ازيل الآن هذا الباب وسد مكانه) وصواب مساحة الصحن 4219م2، وكانت ارضية الصحن منخفضة كثيرا عما هي عليه اليوم، ومزدحمة بالقبور والمحاريب حتى سنة 1206هـ/1791م إذ عبدت أرضه وحفرت سراديب نُقلَ اليها كثير من الأجساد ثم كسيت ارضيته وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1315هـ/1897م أعيد اصلاح ارض الصحن الشريف ثانية، كما اصلحت السراديب، وأعيدت الى ما هي عليه وأضاف الشيخ محمد حسين في 1/369 ـ 370 من كتابه(تاريخ النجف الاشرف) معلومات مهمة حول أرضية الصحن الشريف وما جرى عليه اثناء فرشه بالبلاط سنة 1206هـ/1791م.
ففي أوائل القرن الثالث عشر الهجري صدر الأمر من الوالي العثماني بقلع المحاريب والدكاك والقباب التي كانت في الصحن وتبليطه بالرخام، ولكن السيد محمد مهدي بحر العلوم طيب الله ثراه تصدى لذلك الأمر بعد مشورة أصحابه من العلماء، واتفق ان تبقى تلك الآثار بارزة من دون قلع، وتبنى فيما بينها دعائم محكمة ثم تسقف، كي يصبح السقف أرضا جديدة للصحن، وقد نفذت هذه الفكرة وعبدت أرضيته الجديدة بالصخر الأبيض سنة 1206هـ/1791م، وتاريخ هذا التعمير مكتوب في قصيدتين الأولى عربية والثانية فارسية منقوشتين على بلاطات من القاشاني يكسو جانبي الباب الشرقي الكبير.
وفي عهد السلطان عبد الحميد في أوائل القرن الرابع عشر أعيد ترميم سراديب الصحن وأرضيته مرة ثانية على ما هو عليه الآن، ويبدو ان هذه العمارة لم ترق لعلماء الدين لما رافقها من هتك لحرمات الموتى، اذ ان الإجراء التي اتخذ لصيانة قبور الموتى في العمارة السابقة لم يؤخذ به في هذه العمارة، اذ قال محمد حرز الدين في معارفه 3/244 ـ 245 ونقله حفيده الشيخ محمد حسين ايضا: ان العمل بدأ في ربيع الثاني سنة 1416هـ/1898م، ونبش العمال ارض الصحن لنقض السراديب القديمة وإعادة اعمارها تحت الأرض مما أدى إلى هتك حرمة الموتى بما لا يوصف (وقد ظهرت قبور عظيمة في الربع الشرقي الشمالي، وعثر على سرداب متصل بهذه القبور الى باب المسجد المعروف بمسجد الخضراء).
وخرج قريبا من الكيشوانية ـ مكان وضع الأحذية ـ قبران عظيمان تحت بلاط الصحن، يوشك أن يكونا على ارض وادي الغري، وهما مبنيان بالقاشي الفاخر الأزرق كالفسيفساء بألوان ناصعة وطراز حسن، ودورة القبرين من الجدران المصفحة بالقاشاني المنبت بالأوراد والأشجار، وتحتهما سرداب واسع جدا بابه من حجر أبيض شفاف ثمين، ودرج ذلك السرداب أيضا من هذا الحجر الأبيض، وكتب في حجر أحدهما: توفي الشاه الأعظم السلطان معز الدين عبد الواسع 3 جمادى الأولى سنة 791هـ/ 30 ابريل 1389م، وكتب على الحجر الثاني 11 محرم يوم الأربعاء سنة 831هـ/ 1 نوفمبر 1427م، واسم صاحب القبر لا يقرأ.
وخرج قبر آخر إلى جنب هذه القبور كتب على حجره: هذا قبر المرحومة شاهزاده سلطان بايزيد طاب ثراه جمادى الآخرة سنة 803هـ/ يناير 1401م، وقبر آخر كتب على حجره: هذا الطفل من سلالة الشيخ أويس.
وقد نقض هذه الآثار الفَعَلَة بأمر مجلس الأوقاف العثماني، وكان من الممكن معالجة ذلك الترميم بطريقة مغايرة تحفظ تلك المعالم لو وجد حس آثاري عند القائمين عليه، سواء أكان ذلك الاحتفاظ بها في مكان آخر، أم بالاستفادة من الترميم السابق الذي لم يمس الشواخص التي كانت قائمة في الصحن الشريف آنذاك، أم بالاحتفاظ بشواهد القبور القديمة لقيمتها الفنية والتاريخية.
وذكر محمد حسين أيضا انه في سنة 1370هـ/ 1951م جدد معظم بلاط الصحن الجنوبي، وكسيت جوانب اواوينه بالمرمر الأبيض في حملة أرصدت لها الحكومة العراقية مبلغ 25500 دينار، وشملت أيضا قلع الصفائح الذهبية من جانبي الإيوان الذهبي، وجبهة الإيوان بما فيه الكتيبة الذهبية الكبيرة، وترميم الجدران وصقل الصفائح الذهبية وإعادتها كما كانت، وقد انتهت هذه الحملة سنة 1371هـ/1952م.
وكانت في الصحن الشريف مجموعة من الأحواض، وبعض المسارج للإنارة، وقد أزيلت جميعها لانتفاء الحاجة اليها، وفيه ايضا بعض الآبار كانت يستفاد منها لغسل المرقد الشريف.. وقد غيّر بلاط الأرضية القديم في التوسعة الجديدة ببلاط يوناني فاخر له قدرة على امتصاص الحرارة الشديدة كالبلاط الذي استعمل في الحرم المدني المقدس.

 

نشرت في مجلة الولاية العدد 73

مقالات ذات صله