الإيوان الذهبي يزدان بحزامه من جديد

IMG_3602

حيدر رزاق شمران

يحفل مرقد الإمام علي(عليه السلام) بمعالم تجمع خصائص ثلاثاً: الجمال والتراث والقيمة المادية، ويجمع كل هذه الخصائص البعد الروحي والمكانة في النفوس، وبذلك تكون عمارة العتبة العلوية المقدسة من أهم العمارات التي يشار إليها بالبنان في العالم.
ولكن نفوسا مريضة اندفعت بحقد لتشوه هذه التحفة القيمة، وتلوثها بأيادٍ ملؤها الطائفية والانغلاق، إذ عمدت أجهزة النظام البائد إلى انتزاع معالم من العتبة العلوية المقدسة لأسباب واهية، فأزالت حزام القبة العلوية المشرفة، واقتلعت حزام الإيوان الذهبي الكبير بحجة أن فيهما كتابات وأشعاراً باللغة الفارسية.
وبعد أن انقشعت تلك الحقبة المظلمة، استنفرت الهمم لإصلاح الحال فعملت كوادر العتبة العلوية على ترميم واعادة الحزام الخاص بالإيوان الذهبي الكبير في خطوة هي الثانية من نوعها بعد حزام القبة العلوية المشرّفة.

 

IMG_3484

يعود تاريخ بناء الايوان الذهبي – الذي يصطلح عليه اليوم بـالطارمة أو البهو- إلى عهد الدولة الصفوية، وبالتحديد إلى عهد الشاه صفي حفيد الشاه عباس الكبير، إذ يعد جزءاً من العمارة الخامسة التي أقيمت على الحرم العلوي المطهر، وابتدأ بناؤها سنة (1042 هـ) واشرف عليه وزير الملك آنذاك الميرزا تقي المازندراني واستمر العمل به ثلاث سنين.
والإيوان الذهبي يقع في الجهة الشرقية من الحرم العلوي، وسقفه وجدرانه مكسوة بالذهب الإبريز الخالص، وتقع على ركنيه الشمالي والجنوبي مئذنتان شامختا الارتفاع مكسوتان بالذهب.
وحزام الايوان يقع في وسط الايوان الذهبي تقريبا، كُتبت عليه أبيات شعرية باللغة الفارسية بحروف ذهبية بارزة في مدح امير المؤمنين(عليه السلام) للسيد عرفي الشاعر(ت 999هـ) وتعرف (بهراس ومماس) وقد ختمت باسم الخطاط الذي كتبها (محمد جعفر الاصفهاني) ومؤرخة في سنة (1156هـ) أي انها كتبت بعد اكمال بناء العمارة الصفوية باكثر من مائة سنة، أي بعد تذهيب الايوان في عصر نادر شاه كما سيأتي ذكره.
وهناك كتيبتان اسفل الحزام مكتوب عليهما أبيات شعرية باللغة العربية، بيتان على يمين الداخل الى الحرم وبيتان على يساره، فأما اللذان على اليمين فهما:
لا تُقبَل التوبة من تائب الا بحب ابن ابي طالب
حب علي واجب لازم في عنق الشاهد والغائب
واما التي على اليسار فقد فهما:

لي خمسة أُطفي بهم نار الحميم الحاطمة              المصطفى والمرتضى وابناهما وفاطمة

DSC00016

اثر تاريخي مهم
للتعرف على الأهمية التاريخية للإيوان الذهبي وحزامه النفيس، التقينا بالسيد محمد علي الحكيم عضو مجلس الإدارة في العتبة العلوية المقدسة ليحدثنا عن هذا الجانب فقال: يجد الناظر الى اعلى الايوان الذهبي في العتبة العلوية المقدسة كلمات عربية حروفها ذهبية بارزة فيها تاريخ تذهيب القبة والمئذنتين، الذي أُنجز بامر السلطان نادر شاه، وهو يعد من الآثار التاريخية المهمة الموجودة في الصحن الشريف في الوقت الحاضر، وقد أرّخ الكثير من العلماء والشعراء هذا التذهيب منهم السيد حسين بن مير رشيد النقوي الهندي الحايري المتوفى عام (1170هـ) قائلاً:

يا طالباً عامَ إبداءِ البناءِ لها                     أرّخْ تجلى لكم :نورٌ على النور

ولا يفوتنا أن نذكر أن الإيوان الذهبي يضم مرقد العلامة الحلي في طرفه الشمالي ومرقد المقدس الاردبيلي من طرفه الجنوبي، وكانت تحت هذا المدخل سابقا الخزينة الحصينة التي حوت من النفائس والتحف ما يذهل العقل.
وأضاف السيد محمد علي الحكيم قائلا: لم تزل عمارة الشاه صفي للإيوان والقبة بل لعموم الحرم مكسوة بالحجر القاشاني حتى زمن السلطان نادر شاه، إذ زار النجف سنة(1156هـ) وامر بقلع الحجر عن الإيوان والقبة والمئذنتين وتذهيبها، وبذل في سبيل ذلك اموالا طائلة حتى أضحت هذه الحادثة مضرب الأمثال عند بعضهم فقالوا: (تبذير نادر في النجف).
وتوجد نصوص تؤرخ هذا العمل الجبار، منها ما هو مكتوب بالحروف الذهبية كما بيّنت ونصه في تاريخ هذا الانجاز الهندسي على يد نادر شاه سنة ست وخمسين ومائة وألف للهجرة.
ولعل من الطريف أن نذكر ان تاريخ هذا التذهيب من اشهر الاثار التاريخية واجلّها ذكرا، وهو عمل مهم انجزه اكثر من مئتي صائغ ونحاس تم جمعهم من اقطار اسلامية مختلفة كالهند وتركيا وإيران والصين، والعرب بطبيعة الحال لهم باع طويل في هذا المجال ولعل اغلبهم كتب اسمه خلف قطع النحاس المطلية بالذهب تيمنا لنيل الشفاعة عند الله بوساطة سيد الأولين والآخرين(عليه السلام) .

_MG_9418
إزالة الحزام عن موضعه
من جانب آخر ذكر السيد محمد علي الحكيم عن حادثة ازالة حزام الايوان الذهبي وعملية الحفاظ عليه بعدها قائلا: بعد أن تولى النظام البائد الحكم في العراق أُزيلَ العديد من الطابوق المذهّب لهذه الكتائب بطريقة عشوائية، بل يمكن القول بأن جميع تلك الكتابات والنقوش والطرر قد أزيلت بالكامل، لكن بفضل الجهود التي بُذِلَتْ فيما بعد تم حفظها في المخازن الخاصة بالعتبة العلوية المقدسة وهذه من بركات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
وعن الحال الذي وجدت عليه قطع هذا الحزام الثمين تحدث الأستاذ صادق يوسف جاسم مسؤول شعبة ورشة الذهب في العتبة العلوية قائلا: وجدت قطع الحزام الخاص بالإيوان الذهبي في السرداب التابع للعتبة العلوية المقدسة، وكانت في حالة خزن غير جيدة، إذ تراكمت عليها الأتربة والأوساخ وأثرت فيها الرطوبة وغير ذلك من العوامل، مما أدى إلى تكسر المينا التي تزين قطع الحزام، وصدأ معدن النحاس مما أدى إلى تلف الطلاء الموجود عليه واعوجاج بعض القطع لتراكمها الواحدة فوق الأخرى بصورة غير صحيحة.

IMG_7880
مرحلة الصيانة والترميم:
لكي تتم المحافظة على هذا المعلم التاريخي المهم، بادرت العتبة العلوية المقدسة بإرسال قطع الحزام إلى لجنة العتبات لغرض صيانتها وإدامتها وتصليح كل جزء منها مع الحفاظ على الجزئيات الدقيقة فيها دون أي تغيير، بناء على رؤية المرجعية الدينية العليا في هذا المضمون حول ضرورة المحافظة على التراث بشتى الوسائل الممكنة.
وفي هذا المجال قال الاستاذ صادق يوسف: قبل سنتين ونصف تقريبا – أي في سنة 2011م- تم إرسال قطع الحزام إلى الجمهورية الاسلامية الإيرانية بموجب كتب رسمية عن طريق مركز شرطة زرباطية وفق كتاب تسهيل المهمة ذي الرقم 20 في 17/1/2011، اذ يوجد في إيران متبرعون قادرون على إدامة هذه القطع بطرائق متطورة لامتلاكهم خبرة طويلة في هذا الصدد.
وقد عملوا على إعادة المينا الى القطع وطلي النحاس فيها من جديد بمعدن الذهب، وبعد اكمالهم ترميم الحزام قاموا بإعادته إلى العتبة، وقد استغرقت هذه العملية – الترميم والنقل- سنتين ونصفاً.

DSC00034
مرحلة إعادة التركيب
وعن الطريقة المتبعة في اعادة تثبيت قطع الحزام الذهبي في مكانها قال مسؤول ورشة التذهيب: الطريقة المتبعة في إعادة التركيب تتضمن تثبيت أشرطة نحاسية بواسطة (الجوي) على جدار الإيوان، ومن ثم تربط قطع الحزام الذهبي بوساطة أسلاك من النحاس على الشريط النحاسي المثبت بالجدار، ومن ثم يسكب خليط خفيف من الماء والجص خلف كل قطعة ويترك حتى يجف لضمان ثبات القطع في مكانها جيدا، وقد تم نصب سقّالات خاصة لهذا الغرض وتوفير كافة مستلزمات العمل وفق جدول زمني خاص لكل جزء من المشروع يتم العمل فيه.
الشركة التي أسهمت في المشروع
نفسهم شركة الكوثر الإيرانية بجانب مهم من انجاز المشروع، إذ لكوادرها خبرة طويلة في هذا الصدد، وهي جادة في انجاز المشروع بأسرع وقت، وقد حددت سقفا زمنيا لاعادة قطع الحزام الى مكانها خلال مدة تتراوح بين 30 – 45 يوماً.
وفي هذا الصدد صرح المهندس الكيميائي الإيراني حجة الله علي عن مساهمة شركة الكوثر في تأهيل الكتائب وعلّلها بأن لديهم خبرة طويلة في مجال صيانة مثل هذه القطع الاثرية، بحيث انهم تمكنوا خلال سنة واحدة من صيانة كل القطع الخاصة بالحزام الذهبي، مثمنا في الوقت نفسه تعاون الكوادر العاملة في العتبة العلوية المقدسة في تسهيل مهامهم ومساعدتهم في اعمالهم وبخاصة من ورشة الذهب في العتبة المقدسة.
وذكر المهندس علي خسرو خسروي أن الإخوة في شركة الكوثر يعملون على مدار ثلاث وجبات يوميا من اجل انجاز المشروع بأسرع وقت، وأضاف أن لديهم مشاريع مشابهة أنجزوها في باقي العتبات المقدسة في سامراء وكربلاء والكاظمية، وختم كلامه بكلمة شكر لمنتسبي العتبة العلوية المقدسة على تقديم الدعم لكوادر الشركة العاملة في المشروع.
مصير الحزام البديل
لا تعدو الصفائح التي وضعها النظام السابق كبديل عن الحزام الاصلي عن كونها قطعا نحاسية عادية مطلية بالذهب، وقد وضعت هذه القطع بعد رفعها من الايوان الذهبي في مخازن العتبة العلوية المقدسة، ودوّنت هذه العملية ضمن محاضر أصولية بعددها وتم تصويرها وتثبيتها في سجلات موجودات المخازن، وتوجد لدينا نسخ بالإيداع والتسلّم.
وأخيرا
اليوم، يعود حزام الإيوان الذهبي الى مكانه، بعد ان رمّمته انامل بارعة بطرائق فنية عالية، يعود بقطعه التي تتجاوز الالف قطعة ليمتع عيون الزائرين بالنظر اليه، فهو لوحة فريدة تجمعه التناسق والذوق والابداع الرائع في كل زاوية من زواياها.
ويبقى هذا المعلم الفريد وامثاله شاهداً على ان مرقد امير المؤمنين(عليه السلام) كان ولا يزال مركزا روحياً وحضاريا يستقطب اهتمام الملوك والزعماء من اتراك وهنود وفرس وغيرهم، بحيث يهتمون أيما اهتمام بوضع آثار لهم تعبر عن الحب والولاء والتعظيم لشخص الامام علي بن ابي طالب(عليه السلام) بلغاتهم المتعددة .

 

نشر في مجلة الولاية العدد 73

مقالات ذات صله