الامام علي وفن التعامل مع الناس (3)

DSC05213

     أ.م.د. رزاق عبد الأمير الطيَّار

نعني بـ(فن التعامل مع الناس): عملية إنجاز التواصل الناجح بين فردين من أفراد البشر على الأقل أو مجموعة أفراد لتحقيق أهداف معينة، ويقصد بالتواصل معناه الأعم أي التوافق الإيجابي والاستمرار في إجراء فعل ما سواء أكان هذا الفعل قوليا(حديثا أو نقاشا معينا) أو عضليا أو عقليا .
وقلنا في حلقة سابقة إن تتبع أسس هذا الفن عند أمير المؤمنين(عليه السلام) يقدم لنا قواعد رصينة وآمنة، يمكن السير في هداها باطمئنان لأنها تحقق لنا الغايتين الدنيوية والأخروية، ونواصل الحديث في هذه الحلقة، فنعرض لمحورين من مهارات التعامل مع الناس، هما (الوفاء) و(الرقّة):

 

الوفاء:
الوفاء خلق أصيل في النفس البشرية السوية، يدل على سُموٍّ في النفس، وعُلوٍ في الهمة، وهو من أعمدة منظومة الأخلاق الإسلامية، وقد أمرنا الله تعالى بالوفاء بالعهود في أكثر من موضع في كتابه العزيز، منها قوله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ)(النحل:91)، وقوله عَزَّ وجل: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)(الإسراء: 34)، وعاتب أُمَما سالفة؛ أنها لم تلتزم بعهودها، وتتخلف عن الوفاء بها(ينظر: البقرة:40، الأعراف: 85، هود:85)، وتظهر الحاجة ملحة للوفاء بالعهد وقت الشدائد والأزمات، وقد أمر النبي(صلى الله عليه وآله) بالوفاء بالعهود حتى ما عقد منها في الجاهلية، روى الترمذي في سننه أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال في خطبته: (أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده يعنى الإسلام إلا شِدَّةً…)(سنن الترمذي: 3/73).
أما أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) فنراه يشدد على الوفاء بالعهود يقول في خطبة له:(أوفوا بالعهود إذا عاهدتم . فما زالت نعمة عن قوم، ولا عيش، إلا بذنوب اجترحوها، إن الله ليس بظلام للعبيد)(تحف العقول: 114)، ونراه يحذر مالكا الأشتر بشدة عن الخُلف في العهد فيقول:(وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ، فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإِحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ،وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ الله وَالنَّاسِ، قَالَ الله تَعَالَى:(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُون)( تحف العقول: 147)، وهكذا يُهذِّبُ أميرُ المؤمنين أتباعه على الوفاءِ، الوفاءُ بكل أنواعه: الوفاء بالعهد، والوفاء بالعقود، والوفاء للأخ، والوفاء للصديق، قال عليه السلام : (لا يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقاً حَتَّى يَحْفَظَ أَخَاهُ فِي ثَلاثٍ: فِي نَكْبَتِهِ وَغَيْبَتِهِ وَوَفَاتِه)(نهج البلاغة: 4\33، شرح نهج البلاغة: 18\ 330) وقال أيضا: (مَنْ أَطَاعَ التَّوَانِيَ ضَيَّعَ الْحُقُوقَ وَمَنْ أَطَاعَ الْوَاشِيَ ضَيَّعَ الصَّدِيق)(نهج البلاغة:4\189)، فمن الوفاء للصديق أنك لا تسمع فيه وشاية واشٍ، ولا قول قائل. ومن الوفاء له أن تتعاهده إذا أصابته مصيبة من مصائب الدهر، وترعى عياله إذا سافر، بل تحفظه في عياله إذا رحل من هذه الدنيا. وهذه هي أوقات الشدائد التي يكون الفرد بأمس الحاجة فيها للوفاء من أصدقائه وأهله ومجتمعه ومؤسسته التي قد يكون قضَّى فيها عمره كله يخدم ويطور ويحقق النجاح لها، فإذا ما مرَّ بمحنة، فمن الوفاء أن تبادر له بالعون والرعاية، وخير مثال على ذلك من سيرة عليٍّ عليه السلام تفقده لذلك الرجل النصراني العجوز، فما أن رآه يتكفف ما في أيدي الناس، حتى أمر له بالرعاية من بيت مال المسلمين، وهذا بعض الوفاء لفرد من أفراد المجتمع خدم فيه بعض عمره، فلابد أن يكرمه المجتمع في نكبته، وإنَّا على يقين أن من يتولى التعامل المباشر مع الناس كلما أظهر قدرا كبيرا من الوفاء للآخرين زاد حبهم لهم، وتفاعلهم معه، وحقق لنفسه ولمؤسسته التميّز والنجاح.

الرقة واللين:
امتدح الله تعالى نبيه محمد المصطفى(صلى الله عليه وآله) باللين والرقة، فقال عز وجل:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )(آل عمران: 159)، ومع شدة العرب وبداوتهم في ذلك الوقت إلاَّ أن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) كان بغاية اللين واللطف معهم
وهذا عليٌّ(عليه السلام) يوصي ابنه الحسن(عليه السلام) باللين قائلا: (وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَك) (تحف العقول: 82)، ويقول(عليه السلام): (مَنْ لانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُه‏)(تحف العقول: 147) وهذا تجسيد لقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت: 34)، وقد قالت العرب: (إذا عزَّ أخوك فهُنْ) فإن مُياسرتك لأخيك وصديقك والعاملين معك ليس من الهوان، بل من مُداراة الناس، وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (مُقَارَبَةُ النَّاسِ فِي أَخْلاقِهِمْ أَمْنٌ مِنْ غَوَائِلِهِم) (نهج البلاغة: 4/230).
وكلما كثر تعامل الشخص مع الآخرين كان لزاما عليه أن يرفق بهم، ويرق لهم، ولا يشدد عليهم، ويخفف عنهم ما تمكن من ذلك سبيلا، ولنمعن النظر في وصية أمير المؤمنين لمالك الأشتر ونأخذ منها العبرة، إذ يوصيه في أن تكون الغاية من أخذ الخراج من مستحقيه إصلاح المجتمع ولا تكون الغاية جمع الثروة للدولة والحاكم على حساب الإضرار بالمجتمع، يقول عليه السلام : (وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاحِهِ وَ صَلاحِهِمْ صَلاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلا صَلاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ؛ لأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ، وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً، فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُوونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ، وَ تَزْيِينِ وِلايَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ،…، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أهلها)( تحف العقول: 138)، إنَّ هذه الوصية تعقد موازنة دقيقة بين أمور يبنى بعضها على بعض، وتأتي في الأهمية في المنظور الإسلامي على النحو الآتي: عمارة الأرض أولا، ولا تتحقق مع العوز الذي يصيب أهلها، لذا يجب التخفيف عنهم في الأوقات والحالات غير الطبيعية، وليس هناك حد لهذا التخفيف بل تحكمه الغاية من التخفيف (حتى لا يصيب أصحاب الأرض العوز الذي يمنعهم من استصلاح أرضهم وزراعتها ثانية)، بعد ذلك يأتي الخراج، ومع أهميته في تكوين خزينة الدولة ومعاش الجند وموظفي الخدمة العامة الآخرين إلا أنَّه يجب أن لا يلحق الضرر بمن يؤخذ منه .
ويوصي الإمام علي(عليه السلام) مالكا باللين حتى في العبادات العامة،إذ يقول: (وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ لِلنَّاسِ فَلا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً، وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ، وَلَهُ الْحَاجَةُ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ الله(صلى ‏الله‏ عليه ‏وآله وسلم) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ كَصَلاةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما)(تحف العقول: 144)، إن الإثقال في العبادات على الناس عند اجتماعهم، قد يسبب نتائج سلبية عندهم، فقد يكون فيهم ضعاف أضر بهم المرض، أو تقدم السن، فعلى الإمام أن يرحمهم ولا ينفرهم، وقد يكون في المصلين من يرتبط بعمل، أو أجير في مؤسسة ما، وإن إطالة وقت الصلاة قد تضر بهؤلاء؛ لذا على الإمام أن يتنبه لحاجات الناس، وأن يصلي بهم صلاة لينة، كصلاة أضعفهم. وقد يتحسس الموظفون في الدوائر والمعامل إلى أهمية هذه الوصية، التي تكفل لهم أداء العبادات وعدم الإضرار بأعمالهم .

 

نشرت في الولاية العدد 75

مقالات ذات صله