الفرائد اللغوية في التعبير العلوي: إيحائية الألفاظ

ابجدية الالفاض

د. عباس الفحام

 

كان كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) محل استشهاد في اللغة والبلاغة لدى الدارسين من القدماء، فحفظت كتب اللغة والأدب جانبا كبيرا من أدبه (عليه السلام)، كالجاحظ في البيان والتبيين وفي غريب الحديث كأبي عبيدة الهروي وابن قتيبة والزمخشري في الفائق وابن الأُثير في النهاية، وفي النقد والبلاغة كالصناعتين لأبي هلال العسكري والبرهان في وجوه البيان لابن وهب والطراز ليحيى بن حمزة العلوي. حتى اذا جاء القرن الرابع الهجري ابتدر الشريف الرضي الى جمع كلامه عليه السلام في كتاب احسن في وضع عنوانه فسماه (نهج البلاغة)..
وفي هذه العجالة سنحاول دراسة فرائد استعمالات اللغة في كلام الإمام علي(عليه السلام) مبتدئين بحسن اختياره للألفاظ، اختيارا ينم عن وعي وعفويُة في عمق معنى اللفظة وحسن أدائها مع اخواتها من البناء التركيبي.

 

الألفاظ الموحية:
وأعني بذلك ما تثيره من إيحاء وتخييل في ذهن السامع بحيث يمكنها من الاستقلال برسم الصور، (فتثير الى جانب معناها المعروف معاني جانبية يكون لها وقع كبير في نفس القارئ منفردة أو متآلفة مع الألفاظ الاخريات) (النقد اللغوي عند العرب، نعمة رحيم العزاوي: 231)، وهذا معنى قد ادركه النقاد العرب الأقدمون و(قرروا حقيقته وان لم يحددوا للإفصاح عنه عبارة كالتي نستخدمها في عصرنا الحاضر)(أسس النقد الأدبي عند العرب، د. أحمد أحمد بدوي: 424) فقد عالجوا ذلك وهم يتحدثون عن فصاحة اللفظة المفردة(ابن طباطبا العلوي ت: 322هـ (ينظر:عيار الشعر، بتحقيق، طه الحاجري ومحمد زغلول سلام: 40 ـ 48) وابن رشيق ت 456هـ (ينظر العمدة: في محاسن الشعر وادابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 1126 ـ 128) وابن سنان الخفاجي ت 466هـ (ينظر: سر الفصاحة، شرح عبد المتعال الصعيدي: 67).
وقد ابدى الزمخشري(ت 538هـ)(ينظر: الكشاف: 1/18، 112، 190، 134) مهارة فائقة في استشفاف ألفاظ القرآن واستخراج ما تضمنته من معانٍ دلالية(ينظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن، مصطفى الصاوي الجويني: 232)، وبلغ من احتفال ابن الاثير(ت 637هـ) باللفظ الموحي أن سماه بـ(جوامع الكلم)(المثل السائر، أحمد الحوفي وطاهر أحمد الزاوي: 1/96 ـ 98)، وقال عن اثرها في نفسه (وكنت اذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر وطربا كطرب الألحان)(المثل السائر، أحمد الحوفي وطاهر أحمد الزاوي: 1/98) وقد التفت البلاغيون العرب الى الدلالة الإيحائية لموسيقى اللفظ، وأكدوا الربط بين ايقاع اللفظة ومدلوله وصوره الإيحائية(ينظر الخصائص، لابن جني، تحقيق محمد علي النجار: 2/135، ومقاييس اللغة، لابن فارس: 2/401)، ولم يكن الإحساس بهذه الظاهرة مقصورا على البلاغيين أو اللغويين فحسب بل تعداهم الى غيرهم، فقد روى السيوطي ان أحدهم كان يدعي معرفة دلالة الألفاظ على معانيها من وقع جرسها (فسئل ما مسمى (إذغاغ) وهو بالفارسية الحجر فقال: أجد فيه يبسا شديدا وأراه الحجر)(المزهر: 1/47) ، ولا ريب في ان النصوص الإبداعية مثل كلام الإمام علي هي التي تكشف عما انطوت عليه اللفظة من معان موحية بجرسها وتخييلها فقد توافر كثيرا عليها وبأقسامها الثلاثة وهي الاسم (ألفاظ الجمع) والفعل والحرف.
الاسم (ألفاظ الجمع)
كثيرا ما ترد ألفاظ الجمع موحية في تعبير الإمام، روعي فيها انتقاء صيغ مخصوصة تمكن السامع من استشفاف ظلال ومعان جانبية لها، وقد ورد ذلك في اشكال عدة كقول الإمام علي حاثا اصحابه على الجهاد (استعدوا للمسير على قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه وموزعين بالجور لا يعدلون عنه، جفاة عن الكتاب نكبٍ عن الطريق)(شرح نهج البلاغة: لابن ابي الحديد: 8/103)، وتباينت صيغ الجمع في النص فهم (حيارى، موزعين، جفاة، نكب) اذ لم يرد على نسق واحد فقد أوثرت الصيغ الموحية على تلك الصيغ المجردة، فالقوم الذين يستعد لقتالهم والمسير اليهم ليس لأنهم لا يعرفون الحق فحسب بل هم حيارى عنه ضلوا سبيله فلم يهتدوا اليه لشدة ما هم عليه من ضلال، فصيغة (حيارى) من ابنية الكثرة(ينظر: الكتاب، لسيبويه: 2/195 ـ 196) وردت على هذا الخصوص لتبيان ذلك الأثر من الاضطراب والحيرة، وكأنهم يتصفح بعضهم وجوه بعض متسائلين عن طريق الحق الذي لا يبصرونه رغم وضوح جدده.
وكلمة (موزعين) جمع (موزع) وتعني الولوع بالشيء و(قد أوزع بالشيء ويوزع اذا اعتاده وأكثر منه وألهم)(لسان العرب، لابن منظور مادة وزع)، وهذه صورة اخرى لعناد هؤلاء القوم على باطلهم فهم مولعون بالظلم مستأنسون به لا يصدِفون عنه لأنهم انطووا عليه واعتادوه فاصبح خلاف عادتهم ان لا يحيفوا ويظلموا (فهم لا يرضون إلا بالظلم والجور ولا يختارون عليها غيرهما)(شرح النهج، لابن ابي الحديد: 8/103)، وتعني كلمة (جفاة) النبوّ عن الشيء والارتفاع(ينظر: لسان العرب، مادة (جفا))، فهم (نبوْا عن الكتاب لا يلائمهم ولا يناسبونه)(شرح النهج: لابن ابي الحديد: 8/103). ولصوت (الجيم) المجهور الشديد(ينظر: سر الفصاحة: 23) وسعة حرف المد ايحاء يلقي بظله على الصورة فيلمس فيها غلظة الأعراب وسفه عقولهم فهم فضلا عن نبوهم عن الكتاب اجلاف لا افهام لهم، اما صيغة (نكب) فقد نقل جرسها شدة اصرارهم في العدول عن جادة الحق (لأن الغالب ان يكون توالي حركة الضم مستثقلا) (المثل السائر: 1/269) وهو استثقال فيه ايحاء بالشدة والعناد، وهي ايضا من صيغ الكثرة (ينظر: الكتاب لسيبويه: 2/179 ـ 192)، ويلمس في تنكيرها اطلاق في تصور ذلك الجمع العادل الناكب عن طريق الحق، ولا ريب في ان ثمة ايثارا لصيغة على اخرى من صيغ الجمع المرادفة فقد كان يمكن ان تؤدي كلمة (عُمي) مؤدى(حيارى) وان تبدل (موزعين) بـ(مفتونين) مثلا ولكنها حتما لن تؤدي ذلك الإيحاء الذي ارادته صورة (حيارى) وأخواتها. ولعل مما توحي به هذه الصيغ التي نثرت على الصورة منكرة تفيد معنى الاطلاق هو مدى ما يشعر به الإمام من ضيق ازاء هؤلاء القوم بحيث لا يتوسم في أحدهم خيرا.(ينظر: في فوائد التنكير دلائل الاعجاز: 68 ـ 69، وتعليق محمد مندور في الميزان الجديد: 159 ـ 160)
وقال الإمام في شكل آخر من صيغ اسم الجمع لائما صحبه: (دعوتكم الى نصر اخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر ثم خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف) (شرح النهج، لابن ابي الحديد: 2/300) ان كلمة (جُنيد) تحمل السامع على تصور اولئك المتخاذلين، وما هم عليه من خور، فقد جاء التصغير على سبيل الامتهان والتحقير لأن كلمة (الجند) قد تحدث في النفس جلبة وفزع المقاتل و(التصغير في كلام العرب لم يدخل الا لنفي التعظيم) (سر الفصاحة، لابن سنان الخفاجي: 81) ومما زاد لفظة (جُنيد) قوة في ايحائها حسن موقعها من الكلام فقد جاءت بعد حث وتوبيخ أملا من الإمام في ان يلهب فيهم روح الجهاد.
منتهى الجموع:
وفي شكل آخر من التصوير بصيغ الجمع، التصوير بألفاظ منتهى الجموع، مثل قوله عليه السلام يصف المؤمنين: (أولئك مصابيح الهدى وأعلام السرى، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع) (شرح النهج، لابن ابي الحديد: 4/110). وصيغ منتهى الجموع توحي بالكثرة على سبيل المبالغة (ينظر: الكتاب، لسيبويه: 2/195) وهي كثرة تنبع من داخل الكلمة نفسها من خلال الجرس الذي يحدثه توالي مقطعين طويلين مغلقين فصورة (المساييح المذاييع) تعني كثرة اولئك الذين يسيحون في إفشاء الفساد واشاعة النمائم، واذا كانت هذه الكثرة المذمومة مما يتصف به الناس فإنّ المؤمنين قلة محمودة. ومما توحي به صيغة (المساييح المذاييع) تلك الحركة المذمومة فالمسياح الذي يكثر من التجواب في البلاد لإفسادها، والمذياع هو المفرط في اشاعة النمائم (ينظر لسان العرب: مادة مذيع) بين الناس وكلتا الصيغتين اللتين وردتا على سبيل التكثير والمبالغة مما يتطلب معه خفة وسفهاً على انه في مقابل ذلك تلحظ تلك الرزانة التي رسمتها صورة (مصابيح الهدى واعلام السرى) للمؤمنين فهم رواسخ ثابتون ممن يهتدى بهم.
ومثل ذلك ولكن في اثبات هذه الكثرة قوله(عليه السلام): (لوددت ان الله فرق بيني وبينكم والحقني بمن هو أحق بي منكم، قوم والله ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي)(شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد: 7/276). فالصيغ كلها تشترك بالصفة نفسها في توالي المقاطع الطويلة الموائمة لما تريد تصويره من زيادة وكثرة عما يشترك فيه غيرهم، فإذ كان غيرهم ميمون الرأي راجح الحلم قائلا بالحق تاركا للبغي فهم ميامين مراجيح مقاويل متاريك، وهكذا كل صيغة تصور خصيصة لم يود الإمام اللحوق بهم.
وفي صيغة أخرى من صيغ الجمع قوله عليه السلام في ذكر رسول الله صلى الله عليه واله: (بعثه والناس ضلال في حيرة) (شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد: 7/66، وينظر: مثل ذلك في المصدر نفسه: 1/284) والصورة تريد تبيان مدى ضلالة الناس يوم بعث النبي الكريم، فعمدت الى صيغة (ضلال) بدل (ضالين) لما تضفيه من ايحاءات ومعانٍ، فصوت المد في مقطع (لا) يتوسط اللفظة ليهب مسافة اكبر في تصور حجم الضلال فضلا عن تشديد حرف اللام المنحرف (ينظر: الأًصوات اللغوية: ابراهيم انيس: 87) وتكراره وحتى تبلغ الصورة مداها في تصور ذلك الضلال جاءت منكرة من غير وضع حد لها كأن تعرف بـ(أل) مثلا لتدع الخيال يذهب كل مذهب في تصوير ما كان عليه الناس من تخبط وضلال.

 

نشرت في مجلة الولاية العدد 73

مقالات ذات صله