القوى الغيبية في القصة القرآنية

تنمية الموارد البشرية

احمد جاسم النجفي

ان الأحداث التي تعرضها علينا القصة القرآنية هي من النوع الذي يسير وفقاً للتدبير الرباني والإشراف الإلهي المباشر نحو غاية معينة، ولذلك فلا عجب أن يتدخل الإمداد الغيبي واللطف الإلهي في تسيير الكثير من حوادثها وسوقها باتجاه معين يخدم الرسالة والدعوة الإلهية.
وعادة ما يكون هذا (العامل الغيبي) مصحوباً بعنصر المفاجأة، سواء كان متمثلاً بعذاب أم إمداد ولطف أم معجزة خارقة، وهذا الطابع الفجائي يكاد يكون ملاصقاً للعامل الغيبي غير منفك عنه.

عنصر المفاجأة في الإمداد الغيبي
صرحت بهذا العنصر الآيات كقوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (الأنعام / 44) وقوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) (الاعراف / 95).
واللطف الإلهي المنقذ لأنبيائه وأتباعهم لا ينزل إلا عندما تبلغ القلوب الحناجر، وعندما يشرف المؤمنون على الاستيئاس، كما تصرح بذلك الآيتان القرآنيتان التاليتان: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي مَن نشاء) (يوسف / 110) , (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) البقرة/214 .
ويتجسد عامل المفاجأة هذا واضحا في مقطع من قصة موسى(عليه السلام) حيث قال تعالى: ( فأتبعوهم مشرقين. فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) ( الشعراء / 60 – 63 ) .
فالشواهد المادية تقتضي أن يُدرك موسى وأتباعه، وتصفيتهم تصفية كاملة وانتصار فرعون وجنوده، ولكن العامل الغيبي جاء ليقلب هذه النتيجة في اتجاه معاكس تماماً ليظهر عنصر المفاجأة هنا واضحا .

عنصر المفاجأة في نزول العذاب
والشواهد لهذا العنصر كثيرة، ففي قصة صاحب الجنتين التي جاءت في سورة الكهف: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً. وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ) (الكهف / 32 , 41). فإذا نظرنا الى هذه القصة من منظار مادي – لا يدخل في حساباته العوامل الغيبية ـ فلابد أن تنتهي بثراء صاحب الجنتين إثراءً فاحشاً يدفع صاحبه إلى أن يستشعر في نفسه الغرور والاستغناء عن الله تعالى، ولكن العامل الغيبي يأتي ـ كالعادة ـ ليقلب مجرى الأحداث ويوصلها إلى نتيجة مباغتة عكسية؛ إذ الفقر المدقع والشعور القاتل بالندم: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها) (الكهف / 42 ) .

المعاجز والآيات
أما النوع الآخر من العناصر الغيبية التي تنفرد بها القصة القرآنية، فهو عنصر المعاجز القرآنية ومن الأمثلة على ذلك تلك المنازلات التي حدثت بين سحرة مصر وموسى(عليه السلام), بتعيين زمان ومكان المنازلة وتأكيده على أن تكون على رؤوس الأشهاد، وقد حدثت بمرأى من فرعون الامر الذي يوجد عنصر الإثارة والتشويق والشد فيها.
والملاحظ في الآيات التي تصور لنا هذا الحدث أنها تهيء نفس القارئ منذ البدء إلى الانشداد للقصة ومتابعة أحداثها من خلال ذلك التحدي الذي يجابه به فرعون موسى بعد أن يريه الأخير الآيات التي بعث بها , فيقول له فرعون: (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لن نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى , قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) (طه/57, 59).
فتحدث في نفس القارئ الرغبة والشوق الكبير لمعرفة ما سيحدث, ولا يلبث التصور القرآني أن ينقلنا إلى ساحة الحدث في الوقت المناسب عندما تكون العيون متطلعة والأذهان مشدودة: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى. قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيّهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) (طه / 65 , 66).
ففي المشهد الأول من المباراة ترى الحبال والعصي تتحول في لمحة بصر الى ثعابين تملأ المكان رعبا وذعرا, وتملأ قلوب الإسرائيليين إشفاقا على موسى من هذا السحر العظيم: (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) (الأعراف / 116).
حتى أن موسى نفسه استولى عليه الإشفاق من غلبة الجهّال: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) (طه / 67) . وفي هذه اللحظة بالذات يتدخل بطل الحدث(العامل الغيبي) ليقلب – كما في كل مرة- مجرى الأحداث ويصرفها عن المسار الذي تتوقع الأذهان تتابع احداثه.
ففي تلك اللحظات التي كانت الظروف فيها لغير صالح موسى, جاءت البشرى الالهية: (لا تخف إنك أنت الأعلى. وألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا. إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) (طه / 68 , 69). ( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ) (الأعراف 117) وهكذا يُسدل الستار على هذا الحدث المثير الذي انتهى بانتصار العامل الغيبي الذي تجسّد بشكل معجزة أسهمت – بالإضافة إلى إثبات صدق الدعوة الإلهية- في بعث الحركة والحياة في الحدث.

 

نشرت في الولاية العدد 75

 

مقالات ذات صله