تأملات في مختارات من نهج البلاغة.. عدل الولاة ونفع الرعيّة

254789_9

عبد الرحمن الشريفي

نتطلع الى اليوم الذي تتخذ فيه الإنسانية من نهج البلاغة دروسا لمجالات الحياة كافة، فتنهل من معينه الصافي خير الحياة وسعادتها وبذلك تبني أجيالا بالكلمة الطيبة، تحيا نقية بفطرتها وتتسامى علوا بإيمانها.
وفي هذا المقال نقدم نموذجين مختارين من نهج البلاغة، نتأمل فيهما، ونسبر غورهما، علّنا نوفق بالمسير على نهجه(عليه السلام) الذي يوصلنا حتما إلى الغاية التي نتمناها.

من كتاب لأمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان جاء فيه: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ.
فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ الله عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَمُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْ‏ءٌ أَبَداً وَمِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ وَ الِاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ وَالسَّلَامُ).
أراد الإمام من هذا الكتاب وأمثاله أن يصنع للهيأة الحاكمة معالم طريق الحق في الحكم وبيان القيمة العالية التي تعم الحياة من الالتزام بمنهج الحق الذي اراده الله للإنسانية ان تسلكه.
وينبّه الإمام الهيأة الحاكمة العادلة بأن جهدهم ينبغي أن يتوجه الى تفعيل العدالة في المجتمع ومساواة انفسهم بالناس والعمل على اغناء من افتقر واصلاح ما فسد من واقعهم، فإن كل هذا يلقي بثمار منافعه على الهيأة الحاكمة، وينالون في الآخرة أضعافا مضاعفة من الأجر وتعلو درجات حياتهم الأبدية، وبخلاف ذلك فإن تفرغ الهيأة الحاكمة لأطماعها وأهوائها ينقلب عليها حسرات قبيل طي حياتها في الدنيا واشد منها في حياتها في الآخرة.
لذا كان الإمام حريصا على أن يرشد واليه الى معالم طريق الحق في الحكم الذي يصب في خير الإنسانية وسعادتها، فيحذره في صدر كتابه من اتباع هواه الذي يحول دون اقامة العدل، وان يعمل جاهدا في ترويض النفس وكبح جماح هواها وتصويبها باتجاه الحق لتكون البداية منطلقا في بسط العدل والمساواة بين الناس فيقول (عليه السلام): (أما بعد فإن الوالي اذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل فليكن امر الناس عندك في الحق سواء).

العدل يُبقي والجور يُفني:
وبعد هذا يأمر واليه بأن يحذر من الجور وإن راقه، لأن نسيج مادة الجور يحمل وهنه وفناءه فيه، وسرعان ما يبلى ويهوي متخلفا ومتنكرا من اتباعه لأنه قائم على الباطل الذي لا صدق ولا ثبات ولا قرار له.
بالإضافة الى ان الجور ليس له وجه مقارنة بالعدل، لأن العدل يستمد قوته وديمومته من الحق الذي فيه قوام الكون والحياة، وقد قال الإمام (عليه السلام): (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض)، وبهذا الصدد يقول (عليه السلام): (فإنّه ليس في الجور عوض من العدل).
ثم ينصح واليه بأن يحصن نفسه لكي لا يقع في مصيدة الرغبات والأهواء، وان يبذل نفسه فيما أوجبه الله عليه لنيل رفيع الدرجات في الآخرة فيقول (عليه السلام): (فاجتنب ما تنكر أمثاله وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك راجيا ثوابه ومتخوفا عقابه).
ثم ينبه الإمام الهيأة الحاكمة عبر كلامه إلى واليه بأن الدنيا دار ابتلاء في اتيان العمل الصالح فيما ينفع الناس وان عملك الصالح بهذا الاتجاه من أحسن الأعمال، وأن أي توقف فيها يحدث فراغا في مسار الفرص النافعة التي يندم عليها تحسرا يوم القيامة فيقول(عليه السلام): (واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة الا كانت فرغته عليه حسرةً يوم القيامة).

نفع الرعية واجر الآخرة:
ومن هذا المنطلق يحث الإمام واليه على أن يتمسك بالحق في رعاية الناس، ثم يذكره بأنه من الحق عليه القيام بعمل الخير للناس مقدما ذلك على رغباته، وبذلك يحفظ نفسه من الزلل، فلا تزل قدمه عن الصراط المستقيم فيهوي في سواء الجحيم.
وبالإضافة الى حفظ النفس عليه ان يكون على يقين بحق الاحتساب على الرعية بجهده، والاحتساب هو الاكتفاء بالأجر العظيم المدّخر له في الآخرة نتيجة ما يبذله من جهده لصالح الرعية، وان هذا الفضل من الأجر المدّخر لا يقارن مع الذي يصل للرعية من المنافع ودفع المظالم عنهم في الحياة الدنيا.
وشتان ما بين قيمة المنافع الدائمة المضاعفة التي تحصل عليها الهيأة الحاكمة في الآخرة وقيمة المنافع المنقطعة التي يحصل عليها الناس من خدمة الهيأة الحاكمة لها، فيقول(عليه السلام): (وإنه لن يُغنيك عن الحق شيء ابدا ومن الحق عليك حفظ نفسك والاحتساب على الرعية بجهدك فإن الذي يصل اليك من ذلك افضل من الذي يصل بك والسلام).

خلاصة القول:
نستخلص من هذا الحديث امورا منها:
أولاً: انه لمن الظلم ان تسمع الهيأة الحاكمة لكلام امير المؤمنين(عليه السلام) الذي يعينهم فلا يتخذوا لأنفسهم منه مرشدا ومقوما، وان عدم اكتراثهم لأقواله سببه تغليب البعد المادي على البعد الروحي في أنفسهم، فيمسون لأهوائهم تبعا وللمبادئ تنكرا وضياعا، ومصداق هذا قول الإمام(عليه السلام): (من تعدَّى الحق ضاع مذهبه).
ثانيا: ان طباع أهل الباطل من نسيج واحد، والإمام يُحذّر من الميل إلى هؤلاء لكي لا يحصل الرضا بأفعالهم، لأن الميل والرضا هو انتماء لهم، وعلى المنتمي لأهل الباطل تبعات، منها مشاركته في باطلهم، وقد ورد عن الإمام في ذلك قوله: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم وعلى كل داخل في باطل إثمان: اثم العمل به، واثم الرضا به).
ثالثا: ان طمع الهيئات الحاكمة بالحصول على مزيد من المال الحرام يجعلهم عبيدا لمطامعهم، فيقول الإمام علي (عليه السلام): (الطمع رقٌّ مؤبد)، والإمام(علي السلام) يظهر لهؤلاء وجهاً آخر مماثلاً يصم الطامع بالمال الحرام بالذلّ ويشبه مطامعهم وهي تحيط به فلا يستطيع الانفكاك من شد وثاقها، فيقول الإمام (عليه السلام) فيهم: (الطامع في وثاق الذل).

 

نشرت في الولاية العدد 76

مقالات ذات صله