عمارة المرقد العلوي بعد الحريق الذي شبّ فيه

IMAMALI9

د. صلاح الفرطوسي

 

قُدَّر لعمارة عضد الدولة ان تصمد قرابة أربعة قرون، ولكنها اصيبت بضرر كبير سنة 755هـ/1354م بسبب حريق شب فيها اتى عليها كما ذكر السيد حسن الأمين في كتابه اعيان الشيعة 5/538، نقلا عن كتاب (الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي) الذي كان مجاورا في الحرم تلك الفترة، وهو أحد شهود ذلك الحريق، وكتابه الأماقي ما زال مخطوطا ومحفوظا في الخزانة العلوية كما ذكر السيد الأمين.
ويقرر العتايقي الذي شاهد الضريح قبل الحريق ان المرقد عاد الى احسن ما كان عليه سنة 760هـ/1358م، ولكنه لم يشر الى هيأته ولا كيفية تجديده، ولا عن الذي قام بإصلاحه..

 

إلا أن الشيخ جعفر محبوبه في كتابه ماضي النجف وحاضرها 1/47 رجح ان الإيلخانيين هم الذين قاموا بذلك فقد قال: (ويظهر من تتبع أحوال الإيلخانيين وما أوجدوه في حكوماتهم من الأبنية والعمارات من مدارس ومساجد ورباطات وقنوات في النجف وغيرها ان هذه العمارة لهم، فإن للشيخ حسن آثارا جليلة في النجف وكربلاء فنعتقد ان هذه العمارة لهم، وفي عصرهم حدثت ويقول محمد حسين كتابدار النجفي النسابة ان هذه العمارة لسلاطين كثيرة ورأيت فيها بقية عمارة عضد الدولة)، وتوسعت الدكتورة سعاد بكثير من التحليل العلمي والعملي في كتابها مشهد الإمام علي(ص134) في متابعة ما ذكره الشيخ جعفر محبوبه، ورجحته مستفيدة مما ورد في كامل ابن الأثير من ان السلطان غازان الإيلخاني بنى في المشهد مبنى خاصا بالسادة يسمى دار السيادة، وشيد فيه (خانقاه) خاصة للصوفية، ثم استعانت ببعض العمائر التي كانت في المشهد من جهته الغربية مثل مسجد الرأس فنظرت في محرابه وخلصت الى انه يرجع الى النصف الثاني في القرن السابع الهجري، وبسبب كون المسجد من المباني الملحقة بمشهد الإمام أخذت بما ذهب اليه الشيخ جعفر من ان تلك العمارة من عمل الإيلخانيين، وأخذ به أيضا الشيخ محمد حسين حرز الدين في كتابه السابق الذكر 2/232، ولكن ما ذهبوا اليه لا يمكن الاطمئنان اليه لأن ما استندت عليه الدكتورة سعاد تفصل ما بينه وبين عمارة الضريح سنة 760هـ/1358م قرابة قرن من الزمان.
ونسب الدكتور حسن الحكيم في 2/44 من كتابه تلك العمارة الى اويس بن حسن الجلائري الذي جدده وكساه بالمرمر اعتمادا على ما ذكره الدكتور علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث 1/44 ـ 70) ومحمد النويني في كتابه (اضواء على معالم محافظة كربلاء) ولم اقف على نسبة الخبر المذكور في الجزء الأول من لمحات الوردي، ولكن ما ذكره يبدو اقرب الى الحقيقة، لأن ابا اويس الشيخ حسن الجلائري مدفون في الصحن الشريف كما هو ثابت، وقد توفي ابنه الأمير قاسم بن السلطان حسن نويان الجلائري سنة 769هـ/1367م ودفن بجوار ابيه كما ذكر الشيخ محمد حسين في كتابه السابق الذكر (2/237 ـ 238) والظاهر أن الأقرب الى الحقيقة ان التعمير المذكور يعود الى ابيه الشيخ حسن الجلائري الذي توفي في بغداد سنة 757هـ/1356 ونقل الى النجف الأشرف ودفن في الجهة الشمالية الشرقية من الصحن الشريف في المقبرة الخاصة بهم وتنسب الى الإيلخانيين.
وقد حكم الشيخ حسن العراق سبع عشرة سنة كما نقل محمد حسين في كتابه السابق الذكر (2/235) عن كتاب (تاريخ العراق بين احتلالين 2/62) وكانت عاصمة ملكه بغداد، واقام عمارات نفيسة وجميلة في النجف وبغداد، وليس بعيدا أن يكون اعمار الروضة المباركة من تلك العمارات التي أُشير اليها، وقد ذكر قريبا من هذا قبلهم السيد جعفر بحر العلوم في تحفته (1/279) إذ قال: (وممن فاز بحسن الجوار الأمير الشيخ حسن نونيان المعروف بالشيخ حسن برزك الايلخاني الذي استقل بحكومة العراق 17 سنة، ثم توفي في بغداد حيث عاصمته، ونقل الى النجف ودفن بجوار الأمير، وكانت وفاته سنة 757هـ/1367م، وقد شيد مباني فخمة في النجف).
ولم تسلم هذه العمارة من التخريب والإحراق، فقد هاجمها المشعشع مرتين في عامي 857 و857هـ/1453م، كما ذكر الشيخ محمد حسين في كتابه(ماضي النجف وحاضرها 2/253 ـ 255)، ونهب المشهدين العلوي والحسيني وجعل من قبة المرقد الغروي مطبخا لمدة ستة أشهر لأنه كان يغلو غلوا كبيرا وكان يقول ـ استغفر الله ـ: (إنه رب الربُّ لا يموت).
وما فارق الإعمار ضريحه عليه السلام منذ ان قام، واستمر اصلاحه وترميمه، خلال الحق المتعاقبة، وشارك فيه العباسيون والبويهيون وبنو جنكيز خان والإيلخانيون والسلاطين والعثمانيون وغيرهم، وكلما تعرض له الأشرار بسوء كلما عاد أكثر جلالا وشموخا وما زالت يد الإصلاح تتشرف برعايته وتتبرك.
ويبدو ان تيمورلنك من الذين شاركوا في التعمير ايضا فقد زار مرقد الإمام علي في النجف الأشرف، ومرقد الإمام الحسين في كربلاء، سنة 803هـ/1400م، وأقام ما بين كربلاء والنجف زهاء عشرين يوما صرف همه فيه الى اعمار الروضتين كما ذكر محمد حسين حرز الدين في كتابه السابق الذكر 2/247 اعتمادا على ما ورد في مصادره.
وذكر الشيخ محمد كاظم الطريحي في كتابه النجف الأشرف مدينة العلم والعمران 37 اعتمادا على الترجمة الفارسية لكتاب تاريخ ايران للمستشرق الانجليزي المستر براون 2/181 انه في اواخر عام 941هـ/1524م استرد السلطان سليمان القانوني العراق من الإيرانيين وعمل على إصلاح أحواله وزار النجف وكربلاء، وتقصد ان يقوم بإصلاحات تجاوزت ما فعله الصفويون، وقد رافقه في هذه الزيارة جمهور كبير من حاشيته، وذكر الشيخ ايضا: (وهذه بلا شك الزيارة التي تقول بعض الروايات ان رجلا من رجال الحاشية الكبار حينما شاهد القبة المباركة من بعيد ترجل عن فرسه، وحينما سأله السلطان عن السبب، اجابه بانه ترجل اجلالا لخليفة من الخلفاء الراشدين الأربعة، فما كان من السلطان الا ان يترجل هو أيضا بعد ان تردد في ذلك، واستخار القرآن الكريم فإذا يلاد في الصفحة التي فتحها الآية الكريمة: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}»طه/12».
وأصلحت عمارته إصلاحات عدة من سلاطين الدولتين، وجرت محاولات كثيرة لإيصال الماء الى النجف كلفت من الجهد والمال ما لا يحصى، وقد تحدث عن هذا غير واحد من الكتاب والباحثين.
وبنيت بجانبه وحوله مساجد ومدارس ومساكن لسكن الطلاب خلال القرون المتعاقبة ما زال بعضها قائما حتى الوقت الحاضر على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت بالمدينة، وقد تخرج فيها الاف العلماء ورجال الفكر والأدب من فقهاء وكتاب وشعراء وأدباء، كان بعضهم قصب السبق قديما وحديثا، بالإضافة الى الدعاة من شرق البلاد الإسلامية وغربها ذات الأكثرية الشيعية أو الأقلية، واذا كنت قد مررت في مبحث مرقده الشريف عليه السلام على من مرت بهم وتحدثت عن عمارته بما تحدثت به فلأزيل درنا وقذى اشاعه هذا او ذاك حديثا ممن دفعهم التراكم الطائفي السياسي، وساقهم سوقا الى التشكيك في موضع مرقده الشريف، فتردوا في مهاوي الجهل والمكابرة وعدم التمحيص.

 

نشرت في الولاية العدد 75

مقالات ذات صله