مشروعية الإحياء والبكاء

عقائد

الشيخ ستار المرشدي

يشهد أتباع مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) في هذه الأشهر أوج التفاعل والانفعال مع أوليائهم الأطهار(عليهم السلام) لاسيما مولانا غريب كربلاء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وباتت هذه المدرسة الحقة كما في السابق تواجه حملات تشنيع وادعاء ان هذه المراسيم والشعائر مُبعّدة لا مقرّبة من الباري عز وجل، لذا اعتقد بعضهم ان كثيرا من ممارسات الشيعة هي اعمال شركية. وبعد ان ذكرنا في أعداد سابقة ضوابط وقواعد التمييز بين العمل العبادي التقرّبي والعمل الشركي نشير في هذا العدد الى بعض المصاديق التي هي محل خلاف في هذا الصدد مراعين الاسلوب الوسطي في العرض.

 

وجدانية الإحياء والتخليد:
من يطلع على صفحات التاريخ وسير العقلاء يجد انهم يخلدون كبراءهم ويثنون على جهودهم ويتداولونها ويسطرونها في كتبهم لكي لا تندثر، ويتوارثها الأبناء، وقد تأصل هذا الافتخار والاعتزاز وتوسع ليشمل امورا اخرى كالعَلَم والشعار وكالمقتنيات.
ولهذا الاعتزاز والتقديس أمثلة كثيرة، منها وقوف المسلمين امام بيت الله عز وجل وتقبيلهم لحرمه، وكل هذا هو احياء لما جُعل رمزا وشعارا دينيا، ولنقف في هذا المقام مع بعض الأدلة.

الاحتفال بالآثار المباركة:
1. مقام النبي إبراهيم (عليه السلام): قال سبحانه وتعالى (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) {البقرة/125} وهنا يجعل الباري عز وجل من موطئ قدمي النبي إبراهيم(عليه السلام) أثرا خالدا مكرما بل يجعله علما لعبادته، فأي إحياء وتخليد للنبي إبراهيم(عليه السلام) في ذلك وليس هذا امراً شركياً كما يتوجس المتوجسون.
2. الصفا المروة: قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ {البقرة/158}).
وروى البخاري ما ملخصه: (ان هاجر لما تركها إبراهيم (عليه السلام) مع ابنها إسماعيل بمكة ونفد ماؤها وعطشت وعطش ابنها وجعل يتلوّى انطلقت الى جبل صفا.. فهبطت من الصفا حتى اذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها.. فعلت ذلك سبع مرات) وهذه النصوص الإلهية تخلد هذا الحدث، وتجعله رمزا وشعارا ما دام هذا الدين قائما.
3. رمي الجمرات: روى احمد في مسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (ان جبرائيل ذهب بإبراهيم الى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم أتى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم أتى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ)، فخلد هذا الانتصار للنبي إبراهيم(عليه السلام) على الشيطان وجعل مزارا وفعلا يتعبد به.
4. بيوت ثمود وانتشار الشؤم من المكين الى المكان: روى مسلم في صحيحه ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) نزل بالناس عام تبوك عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأحرقوا القدور وعلفوا العجين للابل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها ناقة النبي صالح(عليه السلام)، وبذلك جعل من آبار ثمود علما وشعارا للضلال، وجعل من بئر ناقة النبي صالح(عليه السلام) شعارا وعلما للهداية والبركة وكذا الحال مع بئر زمزم.
5. خصوصية بعض الأزمنة والأيام: قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ){البقرة/185}، (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ){القدر/3}، وقد ورد في صحيح مسلم (ان الله خلق آدم يوم الجمعة وأدخله الجنة يوم الجمعة)، فلا نرى موقفا في النصوص المقدسة يتشدد ويكفر من احتفل او خلد ذكرى أصفياء الله بل حتى الأحجار والآثار والأزمنة والأيام.

وقفة على أعتاب الطف
بعد ما مر من أحاديث وأدلة، لا يمكن ان يدعى أن هناك خصوصية خاصة لكل ما ذكرنا، وان هذا شرف لكل مفردة مذكورة لا يتعدى إلى غيرها، بل نقول أينما حل الصالحون حل رضا الباري عز وجل وزرعت البركة مثلما حدث لبئر ناقة صالح وبئر زمزم وتعدى هذا التكريم الاعتبارات وصارت له اثار تكوينية، وعلى هذا نتساءل:
– هل أثر قدمي النبي إبراهيم أكثر قدسية من الجسد المبارك لمولانا ابي عبد الله الحسين شهيد كربلاء، وقد جعل اثر القدمين مصلى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
– وهل سعي هاجر الخالد بين الصفا والمروة أقدس من سعي الإمام الحسين(عليه السلام) في أصقاع البلاد لطلب الاصلاح في امة جده(صلى الله عليه وآله)، وهاجر سعت سعي الإنسان المجهود ثم انالها الباري عز وجل بئراً مباركة لها ولابنها، أما مولانا الحسين (عليه السلام) فرجع برضيعه وقد أصابه السهم وهو يشكو من العطش.
– وأيهما اعظم انتصارا، انتصار النبي إبراهيم(عليه السلام) على الشيطان بأن رماه بأحجار ام انتصار الإمام الحسين(عليه السلام) الذي رمى بنفسه وولده واخوته وصحبه في لهوات الحرب فحطم آمال الشيطان في ان ينال من الدين؟

من أدلة مشروعية البكاء:
روت أم سلمة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نائما في بيتي فجاء حسين يدرج فقعدت على الباب فأمسكته مخافة أن يدخل فيوقظه ، ثم غفلت في شيء فدب فدخل فقعد على بطنه .. فسمعت نحيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت فقلت يارسول الله والله ماعلمت به فقال: (إنما جاءني جبريل (عليه السلام) وهو على بطني قاعد فقال لي أتحبه فقلت نعم قال إن أمتك ستقتله ألا أريك التربة التي يقتل بها، قال فقلت: بلى قال فضرب بجناحه فأتاني بهذه التربة، قالت فإذا في يده تربة حمراء وهو يبكي ويقول ياليت شعري من يقتلك بعدي؟) رواه عبد بن حميد بسند صحيح واحمد بن حنبل.
وقد روى الحاكم النيسابوري في المستدرك نفس مفاد الرواية السابقة وفيها (ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبلها وكذا روى المقريزي في امتاع الاسماع) ونستفيد من هذه الروايات التي وردت في كتب غيرنا مشروعية امر البكاء على الحسين(عليه السلام) فضلا عن اثبات شرفية ارض كربلاء وجواز تقبيلها.
ثم ان كتب المسلمين زاخرة بأن النبي (صلى الله عليه وآله) بكى في مواطن كثيرة، وفي رواية نعي النبي(صلى الله عليه واله) لشهداء تبوك ورد انه كان يقول للناس: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم اخذها ابن رواحة فأصيب) وعيناه تذرفان.. البخاري: 2/404، ومن فقه لغة العرب يعي كلمة (نحيب) الواردة في الرواية الأولى -وهو البكاء بصوت عال- ويعي جملة(عيناه تذرفان) في الرواية الثانية اذ تشير الى تحادر الدموع بغزارة.

 

نشرت في الولاية العدد 76

مقالات ذات صله