حماري أبتر من بطن أمـه (قصة قصيرة)

5

د.تومان غازي الخفاجي

صحب صاحب المشويات أخته إلى المحكمة لانجاز عقد زواجها من ابن عمه، فدخل الرجلان على القاضي الشاب الذي نظر إليهما مندهشا دهشة من رأى الكمال والقبح يقف بعضهما إلى جوار بعض، حتى استقر نظره على الفتى الذي أعجبته وسامته، فقال: ألست أنت صاحب المشويات الشهيرة؟ قال: نعم، قال: أكلتُ عندك بضع مرات، فضايقني زبائنك اليهود بحواراتهم حول المال، فقال: أكثر ما يزعجني منهم نقاشهم حول عقائدهم الغريبة. قال القاضي: على أيّة حال أبارك لك زواجك، قال: أنا أخو العروس، وهذا عكموش ابن عمي، قال: ابن عمّك شق المنشار؟ هزّ صاحب المشويات رأسه مطرقا، فقال القاضي: صحيح لو قالوا: النعجة تجيب الأبيض والأسود!. وتوافق على زواج أختك من عكموش؟ قال: أوافق، قال: وأين العروس؟
دخلت تتمايس كقضيب خيزران، وقد زمّت عباءتها السوداء من تحت عنق رخامي بأصابع ناعمة، فشعّ وجهها كبدر الظلماء، فاندهش القاضي أيّما اندهاش، ومن فرط دهشته سقط القلم من بين أصابعه، واستدارت عيناه وفغر فاه، ثمّ فطن لنفسه فتماسك وصاح بحزم: اخرجا كي أتحقق من رضا الفتاة بلا غضب أو إكراه.
لم يتزحزح الرجلان من مكانهما، لكنّ الشرطي جرفهما بعرض ذراعه القويّة وحجبهما بجسمه الضخم خارج غرفة القاضي، فقال: أموافقة بزواجك من عكموش؟ قالت: إن صحّ المثل الذي يقول: «بيدر الذهب يحتاج إلى بيدر النخال» فأنا موافقة، فصاح القاضي: واأسفاه، تعالا، لقد غصبتما من قال الله فيه بأيّ آلاء ربكما تكذبان، على من أمعن في تقبيح خلقته الشيطان، وهذا ما لا يرضاه الله ولا العدالة والناس.
ـ لا أعلم أن أحدا غصب أختي على الزواج من ابن عمّها.
ـ لكنها قالت: جعلوني ضحية مثل قديم: الذهب يجب أن يطعّم بالنخال.
ـ الأمر ليس كما ذكرت، بل حدثت شائعات خدشت صفاء الذهب فخشي رجال العشيرة على جوهرة عرضهم الثمين، فقال شيخ العشيرة: المشكلة لا تحلّ إلا بزواج المرأة من أحد أبناء الأعمام. فحدث نزاع شديد اشترك فيه كلّ الشبان إلا عكموشا أبى أن يكون من المشتركين في نزاع كاد يصلُ حدّ الاقتتال، فصاح الشيخ: هيه! كنتُ أظنّ أنّ العكموش لا ينفع في شيء، إلا أنّ ظنّيَ قد خاب، فهو خير منكم سيُبيّض عرضنا، ويحلّ مشكلة نزاعكم المعيب.. المرأة لا يأخذها إلا عكموش. قالوا: ظلمتها إذ تعطيها لهذا الخسيس، فقال: «بيدر الذهب يحتاج إلى بيدر النخال» وهذا ما قضاه الشيخ لحل النزاع.
ـ النزاع لم يحلّ، ما زال قائما بين من صدّق الشائعات وقضى أن «بيدر الذهب يحتاج إلى بيدر النخال» ومن ينفي الشائعات ويكذبها، ويقول: الذهب يحتاج إلى حجر كريم يجلوه، خصمان يحتكمان إلى من اختلفا فيه.
العروس: يعزّ عليّ أن لا أحكم لأخي وعشيرتي التي اغتمّت وتألمت لمّا سمعتْ أنّ كلابا نبحت بَدْرَهم المنير، لكنّ عشيرتي حرصت على إطفاء نور البدر ليسكتوا الكلاب، فأبى البدر إلا أن يضيء ويقول: أنا في السماء بعيد المنال، والكلاب في الحضيض تسيء المقال.
الأخ: أخشى من كلامك هذا أن يهزم أخاك والعشيرة أمام رجل غريب.
القاضي: أخشى من تحريض الرجل هذا أن يهزم الدولة أمام العشيرة.
العروس: وأنا أخشى أن أنهزم أمام نفسي، إذا ما خذلتني نفسي ولم أقل الحقيقة والله لو أُلقيتُ فريسة للوحوش لن أتزوج من عكموش.
ابتهج القاضي لهذا القرار الجريء الذي انتصر لموقفه، في حين استشاط أخو العروس غضبا حين خسر الرهان، ثم بدرت منه كلمات غير لائقة تمسّ كرامة القاضي، فأمر الشرطي أن يلقيه في السجن. فوجد صاحب المشويات عددا من الموقوفين قبله، عرف من بينهم أحد زبائنه، التاجر اليهودي الذي جادله كثيرا مدافعا عن عدالة القاضي، وعقائد اليهود، فابتسم اليهودي، وقال: يبدو أنه كان عادلا معك!
ـ أتيتُ لعقد أختي على ابن عمي…
ـ فأمر الشرطي بإخراجكما، وكلم الفتاة حتى غيّر رأيها.
ـ وما أدراك بهذا؟
ـ فعل بكما كما فعل بي، اتفقنا أنا وهذا الرجل على شراء بضاعة فقلت: إذا سألك عن دينك فقل له نحن يهود؛ لأنّه كان يفرض علينا ضريبة الضعف إذا تعاملنا مع المسلمين خلافا لشريعتنا وشريعتكم، فأمر الشرطي بإخراجي وسأل شريكي: إذا قتلتك ومتّ ثم لم أبعث حيّا، فكيف ستقتص منّي؟ وكان الرجل غير عالم بأننا لا نؤمن بالحياة بعد الموت، فقال: إنك مسلم وقد كذبتما عليّ أنت وهو.. شرطي، القهما في السجن.. لماذا تضحك أيها الخبيث؟ فقضيتي لا أسهل منها إنها تخلص بالمال، أما قضيتك فمعقدة، فإذا أردت أن تخرج من سجنك فاقطع له وعدا بزواجه من أختك، وسيأتيك، وهناك يمكن أن تثأر منه، فاسمع لنصيحتي واختصر الطريق لتخرج، فأنا مشتاق لمشوياتك اللذيذة، ها هو الشرطي أومأ لي بموافقته على ما دفعت له.
اصطحب الشرطي اليهودي وشريكه إلى القاضي، وسرعان ما خرجا، فحيّا اليهودي صاحب المشويات بيده من بعيد قائلا: القاضي عادل. هزّ بائع المشويات رأسه المثقل بشكوك علاقة القاضي بأخته، التي رسّختها صراحة اليهودي. وبينا هو غارق في تفكير عميق إذا بالشرطي يجرّه على انفراد ويكشف له عن نوايا القاضي، فرأى أنّ من الحكمة أن يتّبع نصيحة اليهودي، وإلا سيواجه حكم إهانة القاضي في أثناء عمله، فوافق بعد ممانعة مفتعلة، وخرج الجميع تشيعهم ابتسامة النصر التي ارتسمت على جبين القاضي. أقبل اليهودي على صاحب المشويات يحمل دُرّاجة وطلب منه أن يشويها له، فتناول الدراجة ورازها بيده وقال: يا لها من دراجة سمينة، أشعر أن قلبها ينبض.
ـ ويحك أين هو قلبها؟
ـ وعيناها مغمضتان.
ـ يبدو انك مصاب بالحمى!
ـ ألم تقل إنّ الميت غافٍ غفوة أبدية؟
ـ لا تتحدث فيما تجهله، فأنت تخلط فقه الحيوان بفقه الإنسان، الإنسان يحاسب، والموت سبات أبدي، والشرير يحلم أحلاما مزعجة، لا جنة لا نارٌ إلا في النفس، وبهذا يمكن أن ندرك كنه (يهوه) غير متلبس بشيء ملموس.
ـ لقد خرجت عن الموضوع، فما علاقة (يهوه) بالدراجة، الدراجة حين ذبحتها ماتت أم هي نائمة؟
ـ نائمة لكن لا تحلم.
ـ حسنا اذهب إلى محلك وسأشوي الدراجة وأرسلها لك بيد الصانع.
ذهب اليهودي إلى محله وانتظر طويلا حتى جاع، ولم يأتِ غداؤه، فجاء إلى محل المشويات وقال: أين الدراجة؟ قال: أي دراجة؟ قال: التي جئت بها لك تشويها قبل ساعة، قال:أوه! نسيتُ أن أخبرك أنّ دراجتك حين وضعتها فوق الجمر صفقت بجناحيها وطارت!
ـ ويلك هذا مستحيل.
ـ بل هذا أكثر من ممكن عندنا، الله يحيي العظام وهي رميم، والدراجة ليست رميما ما زالت طازجة.
حدث جدل حاد بين بائع المشويات واليهودي تخللته سخرية بعقائد الطرفين، اجتمعت على أثره الناس يهودا ومسلمين، ثم تطوّر الجدل إلى شتم وسباب، فهمّ اليهودي بضرب صاحب المشويات، فمدّ نحوه شيش كباب كان بيده وفقأ عين اليهودي، فصاح اليهودي: وا أسفاه النجدة.
فزع يهود السوق كلهم وعمالهم بسكاكينهم وهراواتهم، وراح الجمع المطارد للجاني يزدادون كلما بعدت المسافة لتعاطف عدد من المسلمين مع المجني عليه وحوصر الجاني من جميع الجهات، وظنّ أنّ دمه سيضيع هدرا وسط هذا الجمع المتحمس إذا لم يتسلق جدارا عاليا ويرمي نفسه في الجهة الأخرى دخيلا عند أهل الدار، فتسلق الجدار بهمّة، وما إن تناول شرفة الجدار حتى أدركه الجمع وجروه من أطراف ثوبه وبسبب تمسكه الشديد بالحياة تمزق ثوبه فتخلص منه بصعوبة ورمى نفسه في الدار، وما إن نهض من كبوته حتى وجد الشيخ الذي داس ببطنه ميتا، فاصطرخت النساء: وابتاه، وجداه! فصاح الجاني: دخيل دخيل. فظهر رجل يحمل ساطورا يركض باتجاهه ويقول: الدخيل لا يتسوّر الحائط عريانا، ويدوس ببطن أبي. فرأى الجاني أن لا مفرّ من الساطور إلا بارتكاب جريمة أخرى أو الفرار من الباب، فقرر الفرار وخرج، فخرج وراءه ابن الشيخ والنساء صارخات، فرآه الجمع المتجمهر في الشارع، فقرر أن يتجه نحو محكمة الناحية، فشقّ طريقه وسط الأدغال فصادف حمّالا قد برك حماره، فقال الحمّال: يدك معي لننهض الحمار، فأمسك بذيل الحمار من دون أن يخفف سرعته، فانقطع ذيل الحمار بيده، فلحقه الحمّال الذي كاد يدركه لولا أنّه رمى الذيل من يده فتناوله الحمال دليلا على الجريمة، وبهذا استطاع أن يقطع مسافة تجعله في مأمن من لحاق الحمال القوي حتى وصل المحكمة منهكا فخارت قواه فاستلقى في الممر واستردّ أنفاسه، وسرعان ما اعترف بثلاث جرائم، فقدم للقاضي الذي قال: أهلا بضيفي العزيز الذي عاهد ولم يكتفِ بالنكول عن عهده، بل هزّأني وسخر بي وتطاول عليّ متقوّيا بعشيرته طاعنا بأخلاقي ومتهما إياي باستغلال منصبي إلى غير ذلك من قائمة الرذائل التي لم يتحمّلها إنسان مهما كان ضعيفا إلا إذا كان محبّا فاض ما في قلبه على لسانه ويده، فكانت أجمل التهم الموجهة لي تداوي أنكى التهم التي تمس وظيفتي؛ هو أني مرتشٍ أحكم بالباطل، فما دمت تراني كذلك، فاليوم أريك جحيم الحقّ.
ـ خلصني، ولك أختي أزفها بيدي، قسما لا نكول عنه ولا رجعة فيه أبدا، وما غرر بي أن أخلف عهدي معك إلا اليهودي.
ـ أي يهودي؟
ـ هذا الذي فقأت عينه.
ـ شرطي، نادِ على المشتكين.
دخل المشتكون الثلاثة يتقدمهم اليهودي فسأله القاضي عن شكواه، فقال: أكل دراجتي مدّعيا أنّها طارت حين وضعها فوق الجمر، أتعقل هذا يا سيادة القاضي؟
ـ معقول جدا عندنا، فالله يحيي العظام وهي رميم.
ـ وفقأ عني.
ـ دم المسلم يعدل دم يهوديين اثنين، ليفقأ عينك الثانية وافقأ إحدى عينيه.
ـ وأصبح أعمى؟
ـ وهو سيصبح أعور، أتوافق بهذا الحكم؟
ـ كلا.
ـ ادفع رسما واخرج، وأنت ما شكواك؟
ـ تسوّر حائط داري وداس ببطن أبي.
ـ كان دخيلا عندك، وحملت عليه الساطور لتقتله، أما استحيت من نفسك، أما خجلت من العار؟! كان عليك أن تجيره وأنت مسلم من عدوان اليهود عليه، ثم تشتكيه لي، لنقتصّ منه بالحقّ، ننيمه مكان أبيك، ونطاردك من وراء الحائط بجمع همجي يروم قتلك، يحصرك باتجاه حائطك وتصعد أنت وتلقي نفسك عليه غير متعمد قتله، أليس هذا هو القصاص العادل؟ أتوافق في هذا الحكم؟
ـ كلا.
ـ ادفع رسما واخرج، وأنت ما شكواك؟
ـ أنا حماري أبتر من بطن أمّه.

 

نشرت في الولاية العدد 77

مقالات ذات صله