الفصاحة في خطبة السيدة زينب(عليهم السلام)

ffffff

د. جاسم محمد علي الغرابي

ابتدأت السيدة زينب(عليها السلام) خطبتها الشهيرة بالكوفة بأسلوب التعنيف، والتوبيخ, وهذا الأسلوب دواء لمن أخطأ فأصرَّ على الخطأ، يستوي فيه من أخطأ في موقف وأصرَّ عليه غيرَ عارف بخطئه، ومن عرف أنه مخطئ فأصرّ عليه معانداً، إذن فالتوبيخ والتقريع نتيجة لتكرار الخطأ دون الرغبة في تركه إلى الصحيح من القول والفعل.
وهذا الأسلوب عادة يأتي بعد فضح المواقف التي اتسم بها من حاد عن الصواب، فاستحق العقاب واستحق الوصف الذي لا يرضاه أولو الألباب، ولا نقصد هنا بأسلوب التقريع والتوبيخ الأساليب البلاغية التي جاءت، إنما نقصد:
أ ـ التعجب مما صدر عنهم من تصرفات .
ب.إظهار التصرف الذي كان عليهم أن يلتزموه فخالفوه، مثال ذلك قوله تعالى: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) .
فالمتأمل في الخطبة يجد أنها(عليها السلام) قد بدأت خطبها الشريفة بالنداء (يا أهل الكوفة) ما يعني إنها توجهت مباشرة إلى غايتها وهم أهل الكوفة, ثم اتبعت النداء بمرادفات سلبية(الختل والغدر والخذل).
هذا النداء له إيقاعية هادفة إلى استرعاء الانتباه, إنه صعود الغصة, والغصة تعبير عن انفعال حي وأليم، هذا النداء يضطرنا إلى وقفة سريعة أمام حقيقة واقعية موضوعها الخيانة والغدر والخداع.
ثم تكمل خطبتها فتقول: (ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) فالتشبيه الوارد في مقدمة الخطبة يكشف لنا مدى الأثر الذي أوجده أولئك المنافقون في نفسها(عليها السلام) بعد مواثيقهم ورسائلهم إلى الإمام الحسين(عليه السلام).
فهي استخدمت هذا الأسلوب المستقى من القران الكريم وياله من مستوى رفيع في البلاغة والأدب الراقي كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) .
وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأُسس في ثبات أيّ مجتمع كان، فنلاحظ ان السيدة(عليها السلام) أكدت على هذا الأسلوب الذي يتّسم بنوع من اللوم والتوبيخ.
قال الطبرسي(560هـ) في بيان معنى الآية المباركة: «أي لا تكونوا كالمرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفتل للغزل وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة وكانت تسمى خرقاء مكة -عن الكلبي- وقيل: إنه مثل ضربه الله تعالى شبه فيه حال ناقض العهد بمن كان كذلك» .
ومن خلال هذا العرض الموجز يمكن لنا القول أن خطبة السيدة زينب(عليها السلام) جاءت بأفصح الألفاظ وحق أن قيل فيهم أنهم من بيت يزقون العلم زقاً، فكانت فصاحتها وبيانها فصاحة أبيها وبيانه فهو إمام البلاغة العربية فقد أنمازت بما يأتي: فصاحة الألفاظ وجزالتها، وقوة التراكيب، وحسن الأداء، والترابط بين الجمل، واستعمال الحجج والبراهين، وقد جعلت القرآن سنداً لأقوالها.
فزينب(عليها السلام) كانت الثورة المتممة لنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) وإرساء لدعائمها في نفوس الناس، فإذا كانت المواجهة العسكرية قد انتهت في كربلاء فالفصول اللاحقة انطلقت منها والحرب الإعلامية أظهرت تفوق الحق على الباطل وكانت مناراً حتى يوم الدين. لقد انتصر الدم على السيف وبقي الإمام الحسين (عليه السلام) ذكراً متجدداً على صفحات الزمن.
——————–
– سورة البقرة/ 44.
– الطوسي : الأمالي 100, الطبرسي : الاحتجاج 2/30 , الأمين : لواعج الأشجان 200.
– سورة النحل/92.
– مجمع البيان 6/173.

 

نشرت في الولاية العدد 78

مقالات ذات صله