الامام علي(ع) وفن التعامل مع الناس(6)

dddd

أ.م.د. رزاق عبد الأمير الطيَّار

عرضنا في مقالات سابقة مفهوم (فنّ التعامل مع الناس) الذي يتعرض للمهارات التي يجب أن يتحلى بها القادة والمدراء لضمان نجاحهم في تعاملهم مع الناس، وكان ذلك العرض ضمن محورين: محور(الفهم والتواصل) ومحور(الجذب والتأثير)وكان دليلنا في استكشاف هذه المهارات سيرة أمير المؤمنين علي(عليه السلام).
وبيَّنّا أن تتبّع أسس هذا الفنّ عند أمير المؤمنين(عليه السلام) يقدّم لنا قواعد رصينة وآمنة لإنجاز التواصل الناجح بين أفراد المجتمع لتحقيق أهداف معيّنة، ويمكن السير على تلك الأسس العلويَّة باطمئنان، لأنّها تحقّق لنا الغايتين الدنيويّة والأخرويّة معا.

 

نواصل الحديث في المحور الثالث من محاور هذا الفن، الذي يتضمن مهارات (الحثّ والحفز) للأفراد والأتباع لتحقيق التعامل الناجح معهم، ولا شك أن هذه المجموعة من المهارات مكملة لما عرضنا له في الأجزاء المتقدمة ويجب على القياديين في الأوقات كلها أن يتحلوا بها ويجيدوا تطبيقها ويتفننوا في استعمالها ليحققوا النجاح في تعاملهم مع أتباعهم أو مريديهم أو من يقعون تحت رعايتهم وإدارتهم في عملهم أو مؤسساتهم.

منح الآخرين الصلاحيّات:
من سمات القائد الناجح أن يكون قادرا على رسم الخطط الاستراتيجية وتحديد الأهداف المستقبلية، وتخطيط الطرق العامة لتنفيذ ما يرمي إليه، وأن يخلق طبقة من المدراء الناجحين، الذين يتولون تنفيذ تلك الخطط، ويزداد نجاحه كلما كان مؤثرا فيهم، فيكونون قادرين على إدارة الأمور وتنفيذها بطرقهم الخاصة، وعلى القادة إعطاء معاونيهم حرية أداء أعمالهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، وبتعبير آخر منحهم الصلاحيات التامة التي تمكنهم من تنفيذ سياساتهم في إنجاز الأعمال الموكلة بهم، أما إذا كان القائد متحكما في كل شيء فسينفر منه العاملون، وسيفشل سريعا لأنه محدود الطاقة والجهد، لذا فان منح الصلاحيات للآخرين تجعلهم أكثر إبداعا في إنجاز الأعمال الموكلة بهم وسينفذونها بطاقة وحماس وبروح مبادرة عالية.
وهكذا كان منهج عليٍّ(عليه السلام) مع عمّاله وولاته على البلاد الإسلامية، فهو يختار الشخص المناسب ويمنحه الصلاحيات التامة، ويرسم له الطريق، ويحدد له الأهداف، ويتركه ينفذ العمل بطاقاته الخاصة، فيحفز في الآخرين الجد والاجتهاد، وليميز المبدع من غيره، وإذا نظرنا في كتبه إلى عماله مثل (محمد أبن الحنفية) أو عهده إلى (مالك الأشتر) أو إلى عمال الخراج نرى بوضوح سعة الصلاحيات التي يمنحها لهم، ومن تلك الصلاحيات: منح العفو في العقوبات التي ليس بها حدٌّ محدود بموجب الشريعة واختيار المستشارين والوزراء ومنح الشكر بحسب ما يراه مناسبا للعمل الذي يقوم به الأفراد وتعيين قادة الجند وتعيين القضاة ورواتبهم وتحديد الأرزاق والمعاشات للجند والموظفين العموميين وتعيين جهاز رقابة نزيه لمراقبة ضعاف النفوس وتخفيف الخراج عن أصحابه بما يضمن عدم إلحاق الحيف بهم أو بأراضيهم..
ومع سعة هذه الصلاحيات التي فوضّها أمير المؤمنين(عليه السلام) لبعض عماله فإنه يبقى مراقبا لأمورهم، ولا يغفل عن متابعة أداء كل فرد منهم، حتى إذا نمى إليه خبرٌ عن زلة، أو فعل غير مرضي، أسرع إلى عامله بكتاب ينبهه فيه على الخطأ أو يعاتبه على ما لا يحسن أن يقوم به، أو قد يعزله إذا كان الأمر فاحشا أو خطيرا.

الحلم وعدم تعجيل العقوبة:
قرن الله تعالى الحلم بالغفران في وصف ذاته المقدسة في أكثر من خمسة مواضع في القرآن الكريم، منها قوله عز وجل: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة/235) وكذلك قرن الحلم بالعلم في أكثر من موضع، منها: (والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ)(النساء/12)، وقرن الحلم بالغنى، قال تعالى: (والله غني حَلِيمٌ)(البقرة/263)، وقرنه بالشكر أيضا في قوله: (والله شَكُورٌ حَلِيمٌ)(التغابن/17) والحلم: الأناة والعقل، وهو ضد السفه، ومن حِلمِ الله تعالى أنه يغفر ذنوب العباد مع علمه بها.
وعلى الفرد إذا أراد الارتقاء في سلم الأخلاق ويُحْسِنَ تعامله مع الآخرين أن يكون حليما، فلا يعاجلهم بالعقوبة ولا يبادرهم بالمحاسبة، بل يقبل منهم كل عذر ممكن، ويجد لهم كل مخرج، حتى وإن كان الحق له، وقد قال عليٌّ(عليه السلام): (لا يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ، إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَه) فالحليم لا يُلام بسبب التأني والروية.
وقال عليه السلام: (الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ) إذ كلما تصدّر الشخص للمناصب وأصبح أكثر عرضة للتعامل مع الناس، وجب عليه أن يتحلى بالحلم والروية وعدم العجلة، وكل سمة من هذه السمات ستحفز الآخرين على حُسن التعامل معه وتجبرهم إلى الانقياد له.
وقال(عليه السلام): (الْجُودُ حَارِسُ الأعْرَاضِ، وَالْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ، وَالْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَر) فجود الإنسان يغطي كل عيب ويحرس عرضه من أن يتناوله العائبون، أما الفدام فهو خرقة توضع في فوهة الإبريق لتصفي ما يخرج منه وتمنع القذى من السقوط في الكأس، فإذا كان الإنسان حليما سيصفى كلامه وأفعاله من القذى، وبذلك يقل الخطأ عنده ويحفز الآخرين على الالتفاف حوله وانجاز الأهداف المشتركة الجامعة لهم.

المرونة في التعامل:
وينصح أمير المؤمنين(عليه السلام) من يتعاملون مع الناس بأن يكونوا أكثر مرونة، فيحملوا كلام الناس على المحمل الحسن، ولا يتربصوا بهم ويتصيدوا كلامهم لينكلوا بهم، فقال: (لا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا في الخير مُحْتَمَلا)، إذاً على المرء أن يكون مرناً في تقبل الكلام وأن ينظر إلى الناحية الإيجابية منه ولا يميل إلى تفسيره السلبي.
وليس العفو عن المذنبين والخاطئين أمارة ضعف ووهن، بل هي شيمة الكرام وإنما يكون العفو بعد الإمكان والظفر، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): (أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ) فكلما كان الفرد متمكنا من العقوبة كان العفو منه أجمل، وهذا شأن الله تعالى، فهو القادر المقتدر، وهو العفو المتجاوز، فحري بكل مدير مؤسسة أو رئيس لدائرة، أو قائد لمجموعة أن يتحلى بآداب السماء، وأن يكون عالي الهمة سامي النفس، يعفو عمن يصدر منهم الخطأ بلا قصد عندما يظهرون التوبة والندم.
ولا يشمل العفو الأصدقاء والمقربين فحسب، بل أجمل العفو ما كان مع الأعداء أو المنافسين، قال عليٌّ(عليه السلام): (إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَة عَلَيْهِ) هذه شيمة كرام الناس.

نشرت في الولاية العدد 79

مقالات ذات صله