التدبير الاقتصادي في دولة العدل

kgfd

شاكر القزويني

من وهج صبحه الوضّاح وصايا وعظات يضع فيها منهاجا يسلكه عامله على الصدقات، وهو أمر لايفوت الحاكم العادل والسياسي المحنك الذي يرى في الاقتصاد وتدبير أموره قضية لا مناص عنها لتحقيق غاية الحكم في بسط العدل والرفاهية والتقدم فضلا عن رضا الله لنيل توفيقه وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.

 

وهذا الموضوع ينطبق اليوم على أنظمة الحكم المدنية الحديثة في النظام الضريبي، فيضع(عليه السلام) قواعد وأسسا لجبي الضرائب، في طريقة التعاطي مع الناس والحدود المسموح بها وفق رؤية اقتصادية إنسانية الوسيلة والهدف، فضلا عن الحقوق الشرعية الواجبة على كل مسلم ومسلمة، فيختار أولا من يناسب هذا الواجب الحساس فيحدد صفاته وميزاته فيقول: «وَلَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ» فيكون شرط التدين وطاعة الله تعالى من أول الشروط على القائم بهذا الأمر.
ويشترط أيضا أن يكون ليّن الجانب ذا رفق بالمسلمين، أمينا في نقل المال الى من يحق له التصرف فيه لوجهته المطلوبة، لما للأموال عند الناس من موضع عزيز، إذ يحتاج الإنسان للتخلي عن أمواله إيمانا تعمقه ممارسة متكررة من البذل لترويض النفس على الإيثار والتضحية بما تشتهيه الأنفس، ولا يتم هذا الامر بالقوة، فيفتن الناس في دينهم ودنياهم.
لذا يؤكد(سلام الله عليه) في كلمته هذه على صفات الجباة، فيضع الرفق والشفقة في أول شرائطهم ويضع الأمانة والحرص دون عنف وغلظة أسلوبا وسلوكا يتبعونه مع الرعية لتحقيق الغاية، وينهى(عليه السلام) عن المبالغة والزيادة في الأخذ، فتذهب الأموال وتسوء أحوال الناس ونفسياتهم مما لحقهم من تعب لصعوبة العيش وضياع الأموال، فيسود غضب الناس وحنقهم على الولاة والنظام الذي يحكمهم فضلا عن العصيان والتملص الذي ستلجأ اليه الرعية نتيجة الإيغال بفرض الضرائب، فلا تؤدي الجباية غايتها ولا الطاعة منيتها، فيقول(عليه السلام): «وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ وَلا مُجْحِفٍ وَ لَا مُلْغِبٍ وَ لَا مُتْعِبٍ».
الرفق بالحيوان وحفظ الموارد الاقتصادية:
ومما ينبغي ذكره في هذا المقام ما يوصي به إمام العدل(عليه السلام) من الرفق بالحيوان الذي سخره الله تعالى لخدمة الإنسان، فضلا عن البعد الاقتصادي، فالثروة الحيوانية جزء حيوي للأمن الإقتصادي في كل أمة، إذ يقول (عليه السلام): «ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ الله بِهِ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا وَلَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَبَيْنَهَا وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللَّاغِبِ وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَالظَّالِعِ وَلْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ وَلَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ وَلْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ وَلْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَالْأَعْشَابِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ الله بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَلَا مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ الله وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)..».
أي رفق ورشد هذا وأي بلاغة وبيان في حسم الأمور ورعايتها، إذ يأمر بأدق تفاصيل حسن التدبير والرعاية في التعاطي مع الدواب المأخوذة كصدقات، اذ ينبع ذلك من مقياس العدل في منح الحقوق الطبيعية لجميع المخلوقات كاملة، فمن بالغ عدله أنه أوصى بالعدل بين الدواب في تقاسم الركوب والكلأ والرعاية والحرص.

غائية إعمار الأرض ودفع الضرر:
يضع الامام علي(عليه السلام) في دولته العادلة نصب عينيه إعمار الأرض كغائية من غير الممكن تجاوزها ولا الالتفاف عليها بأي الذرائع التي قد يتذرع بها أصحاب السلطة وأولو الأمر، فلطالما أكد (عليه السلام) في شتى ممارسات الحكم على العمل الصالح والتماس رضا الله تعالى بالبذل والعطاء لإعمار البشر والحجر، بل حتى التي تقتضي الأخذ كمقتضى من مقتضيات الحكم والشرع المقدس، يضع سلام الله عليه العطاء والبناء والإيثار والنصح والعطف منهجا لها وإطارا تتأطر به، فيقول في كتاب له (عليه السلام) لمالك الأشتر(رضي الله عنه) عامله على مصر: «وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ» ولِمَ ذلك ؟ فيوضح سيد البيان (عليه السلام) هذا الأمر فيقول: «لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا» أي ان الناس إنما تدفع الأموال حينما تزدهر أحوالهم الاقتصادية ويكون فائض القيمة في أعلى مستوياته، إذ تدور عجلة رأس المال في أمان وحرية، فيزدهر العمل ويكثر الإنتاج وترتفع الأجور، حينها يرتفع معدل الدخل الحقيقي للفرد، ولا يتبقى أحد من عناصر الإنتاج على دكة البطالة، ويعم التطور في كل قطاعات الاقتصاد، وبذلك تكون قدرتهم على العطاء كبيرة من دون جهد يذكر، على عكس ما يحل بهم في وقت الكساد حينما تقل دخول الأفراد فيتقلص الطلب على السلع والخدمات فيعم الكساد، مما يوقف عجلة الإنتاج أو يجعلها تتراجع، فتتوقف المصانع وتعم البطالة والفقر بعد هذا الانكماش الاقتصادي، الذي ينعكس بشكل مباشر في تداعياته على المجتمع.

تدخل الدولة لتلافي الازمات:
لهذا لا يكتفي أمير المؤمنين(عليه السلام) عند هذا الحد من الحرص على سلامة المجتمع في مسؤولية الدولة تجاه النشاط الاقتصادي، فتتدخل الدولة عند وقوع الكوارث والنكبات الطبيعية والأزمات الاقتصادية لتخفيف أثرها ووطأتها على المجتمع بتقديم العون والتعويض للمتضررين، فيعد دعم الدولة وتدخلها لدرء الضرر في هذه الأحوال دولة العدل عند أمير المؤمنين(عليه السلام) من الواجبات الضرورية لديمومة الدولة ونظامها فضلا عن الرفاه الاجتماعي. وهي من مناهج الحكم الصالحة في زمننا الراهن، تعكف عليها البلدان وتتعداه من منطلق إنساني لمواساة ودعم شعوب بلدان غير بلدانهم، ومن منطلق ستراتيجي مستقبلي، في منظور كلي للاقتصاد العالمي، لتشابكه وارتباط بعضه ببعض ارتباطا عضويا، فيقول(عليه السلام): «فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ» ويعطي للولاة والحكام تفسيراً مشجعاً لهم على اتباع هذه السياسة مع الرعية فيقول: «وَ لَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ وتَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَرفْقِكَ بِهِمْ».
فيكون هذا العطاء والدعم المالي الذي يفوق العدل ويتعدى الى الكرم والإيثار ينعكس حبا وطاعة وعرفانا من الجماهير.
فبالمقابل فان الدولة ستحتاج يوما لقوة ووقفة جماهيرها للدفاع والتضحية بالنفس والمال لحفظ الأرض والدولة ونظامها الرشيد، فلا يستكثر ما يعطى لدفع الضرر ورتق ما تضرر وإعلاء البنيان مهما ارتفعت كلفته لأن: «الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ» وان شح اليد وترك الناس يغرقون بفقرهم وسوء أحوالهم – بأن يدير الحكام ظهورهم عنهم منغمسين بملذاتهم- لن يؤدي إلا الى انهيار النظام القائم وسيادة الصراعات والفساد والضعف وتمزق البلاد، وفي هذا يقول(عليه السلام): «وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا».

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله