مفهومُ العدلِ ومَسائله العَقديَّة (حُسن الأشياء وقُبحها عند العقل العملي الإنساني)

 

akaed

الشيخ مرتضى علي الحلي

العدل هو ثاني أصلٌ ديني في العقيدة الإسلامية بعد أصل التوحيد الإلهي،
والمرادُ به هو تنزيه الباري تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب (شرح الباب الحادي عشر:العلامة المقداد السيوري(ت826هـ)/ص68 ).
وقد اختزلَ الإمام علي(عليه السلام) مفهوم العدل الإلهي في كلمة وجيزة الألفاظ دقيقة وكبيرة المعنى إذ قال: (العدل أن لاتتهمه) (نهج البلاغة:ج4/ ص108) بمعنى أنَّ اعتقادكَ بعدل الله تعالى يدفعك الى أن لا تتهمه في أفعاله بظنِّكَ عدم الحكمة فيها أو بما لا يليق به من نسبة القبح والظلم.

 

والعدلُ في حقيقته يُمثِّل شأناً وجودياً واقعيا في توحيد الله تعالى وهو حقيقةٌ من حقائق الذات الإلهيَّة المُقدَّسة، ومن الواضح أنَّ أصل العدل هو من مُدركات العقل العملي عند الإنسان، ذلك العقل الذي يُعبّرُ عنه عند علماء الأديان والعقيدة بالحسن والقبح ويُعبّرُ عنه عند الفلاسفة بالخير والشر، وعند علماء الأخلاق بالفضيلة والرذيلة، والمراد من العقل العملي هوالمُدرِكُ لما ينبغي فعله وإيقاعه أو تركه وما لا ينبغي فعله، والعدلٌ هو واحدٌ من جملة مايدركه العقل العملي عند الإنسان السوي من حيث إنَّ (العدل) أمر حسن وينبغي فعله ويستحق فاعله المدح عليه عقلاً بخلاف الظلم فهو أمر قبيح عقلا فينبغي تركه ويستحق فاعله الذم عليه عقلاً وقد أكّدَ العلامة الحلي (ت726هـ) وذكر أنَّ العقل الإنساني العملي (هو قاضٍ وحاكم بأنَّ من الأفعال ما هو حسن كرد الوديعة والإحسان والصدق النافع وبعضها ما هو قبيح كالظلم والكذب الضارّ ولهذا حَكمَ بحسن الأشياء وقبحها وكونها من مُدركات العقل العملي حتى من نفى الشرائع وأنكرها كالملاحدة وحكماء الهند) (شرح الباب الحادي عشر: العلامة السيوري:ص68 ).

العدل عند الإمامية والمعتزلة والأشاعرة:
وقد تبنَّتْ فرقة الامامية الاثني عشرية ومعها فرقة المعتزلة العدليَّة مقولة العدل الإلهيِّ وأصالته العقلانية إدراكياً، وحكمتْ بأنَّ العقل الإنساني العملي قاضٍ وحاكم بذلك بصورة مستقلة عن الشرع، فالحسن حسنٌ في نفسه والقبيح قبيحٌ في نفسه، سواء حكمَ به الشرع ببيان صفة القبح فيه أم لم يحكم، وبيَّنوا البنيوية العقلانية والمَدركية لذلك المبنى القويم، وهو أننا نعلم بالبداهة والضرورة التي لا تحتاج إلى كسب ونظر وتفكر، بل بمجرد تصور مفاهيم معينة نعلم بها فنحكم بحسنها ابتداءً كحسن العدل وقبح الظلم وحسن إنقاذ الهلكى وقبح الكذب.
وهذه البداهة التصورية للمفاهيم والقدرة على تحديد حسنها وقبحها هي أمرٌ مركوزٌ في جبلَّة الإنسان الأوليَّة ومع وجدانية وأوليَّة وإدراكيَّة العقل العملي الإنساني لحسن الأشياء وقبحها.
إلاَّ أنَّ فرقة الأشاعرة جمَّدتْ فعاليَّة وادراكيّة العقل الإنساني في تعاطيه مع المفاهيم وتصورها والحكم عليها، وزعمت بالتعبَّد بالشرع وأنَّ الحسن من الأشياء ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبَّحه الشرع، والأشاعرة هم فرقة إسلامية سنّيَّة المذهب تنتسب إلى المتكلم أبي الحسن الأشعري (260-324 هـ). ولها مقولات غريبة في بنيتها العقدية كمقولة الجبر وجواز الرؤية والجسمنة لله تعالى وغيرها كثير .

الرد على مزاعم الأشاعرة:
ولكن ما تبنته الأشاعرة من تبعية حسن وقبح الأشياء للشرع هو تبنّنٍ مردودٌ عقلاً، وقد أقامتْ مدرسة الإمامية الحقة الأدلة العقلية المتينة على بطلان ما تبنته الأشاعرة ومنها:
1. أنه لو كان مَدركُ حسن الأشياء وقبحها هو الشرع لا غير للَزِمَ أن لايتحققا (أي الحسن والقبح للأشياء) من دون حكم الشرع في ذلك، فدعوى عدم تحقق الحسن والقبح للأشياء إدراكاً من لدن العقل العملي الإنساني من دون حكم الشرع باطلة أصلاً بدليل تحقق التحسين والتقبيح للأشياء عقلاً في الخارج والواقع البشري الموضوعي بمعزل عن الشرع حتى عند من لا يؤمنون بالشرائع كالملاحدة وحكماء الهند قديماً، وهؤلاء قد اعتقدوا بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها من غير توقف في ذلك على حكم ورأي الشرع، وبذلك يثبت الحق في ما قالته مدرسة الشيعة الإمامية وهو أنَّ الحسن والقبح للأشياء هو من مدركات العقل الإنساني عمليا ولا توقف فيه على حكم الشرع.
2. أنه لو أبطلنا قدرة العقل العملي على إدراك حسن وقبح الأشياء بصورة مستقلة عن الشرع لبطلَ وانتفى التحسين والتقبيح الشرعي للأشياء، لأنّه بانتفاء الحسن والقبح العقليين ينتفي الوثوق بحسن ما يخبرنا الشارع بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه، فلا انتفاء للتحسين والتقبيح العقليين عمليا لكون العقل وظيفةً تدرك وتتعقّل ما هو حسن وما هو قبيح سواء حكم به الشرع أم لم يحكم، وقد ذكر علماء الكلام شاهداً على ذلك، وقالوا لو أنَّ الشرع لم يحكم بقبح الكذب ولم يحكم العقل بقبحه بناءً على مبنى الأشاعرة، فإذا انتفى قبح الكذب من الشرع انتفى الوثوق بحسن ما يخبرنا بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه.
وقد بيّنَ العلامة الحلي(رحمه الله تعالى) هذا الوجه بما نصه: (أنّ الحسن والقبح لو ثبتا شرعاً لم يثبتا لا شرعاً ولاعقلا وعدم ثبوتهما لا شرعا ولا عقلا باطل، ذلك أنا لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه حتى من الله تعالى وحاشاه عن ذلك، فإذا أُخبرنا في شيء أنه قبيح لم نجزم بقبحه عقلا وإذا أخبرنا في شيء أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب على الله (تعالى عن ذلك علواً كبيرا) ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير) (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي: ص186 ).
فإذاً ينتج من ذلك أنَّ التحسين والتقبيح للأشياء هو من مُدركات العقل العملي الإنساني لا من جملة ما يتوقف حكمه على رأي الشرع توصيفا وبياناً كما ذهبتْ إليه الأشاعرة .

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله