مفهوم الاختلاف في القرآن الكريم

50

الشيخ كاظم الصالحي

الاختلاف في اللغة من (خَلَفَ) ويعني المخالفة وهو أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر من حال او قول، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي الى المنازعة والمجادلة، قال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ) وقال سبحانه:(وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، وهذا المعنى سيكون موضوع بحثنا القرآني. والاختلاف يعني التعاقب ايضا، قال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي مجيء كل واحد منهما خلف الآخر وتعاقبهما، والخلف يعني المخالفة في الوعد. والاختلاف بين الناس منذ بداية التاريخ الى يومنا هذا يرجع إما الى العقيدة وأسسها، أو الى الحياة الاجتماعية. ولذاك يدور بحثنا القرآني حول الاختلاف العقائدي والاختلاف الاجتماعي.

 

الناس ليسوا سواء في عقيدتهم وتصورهم عن خالق الكون واسمائه وصفاته وعن نهاية الكون ومصير الإنسان من هنا حصل الاختلاف في العقيدة والتفرق بين الناس فبعضهم رغم ايمانهم بوجود الخالق ينكرون وحدانيته في الخلق والتدبير وبعض المشركين يعتقدون بوجود مبدأين للخلق وبعضهم يميلون الى عبادة موجودات طبيعية كالشمس والقمر والكواكب وغيرها.
وفي المقابل كل الأديان السماوية توحّد الله تعالى في خلق الكون وتدبيره وقد وجب على أتباع كل دين ان يتبعوا المرسل اليهم الذي يأتي بعد نبيهم، ولكن بعض هؤلاء الأتباع لم يلتزموا بهذا الواجب وخالفوا دينهم ظلما وعدوانا حرصا على مصالحهم التي يهددها ظهور الدين الجديد.
ووقع الاختلاف بين أتباع الدين الواحد بسبب الشبهات والدوافع الذاتية والموضوعية فضلا عن الاطلاع على الثقافات الأخرى فظهرت الفِرق والمذاهب، من هنا دعا القرآن الكريم المسلمين الى الوحدة والاعتصام بحبل الله قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) «آل عمران/103» وأمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء وكتبهم وحذرهم من ان يكونوا كالنصارى واليهود قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) «البقرة/285».
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يتوقع تفرق الأمة الإسلامية الى فرق ومذاهب ففي الحديث المستفيض الذي رواه الفريقان عن رسول الله إن أمة موسى افترقت بعده الى احدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار، وافترقت امة عيسى بعده الى اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واحدى وسبعون في النار، وان امة الرسول ستفترق بعده الى ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار، واختلف المحدثون المتكلمون في المراد من الفرقة الناجية.
وفعلا تفرق المسلمون الى فرق ومذاهب حسب المعتقدات كالمرجئة والخوارج والأشاعرة والمعتزلة والكرامية، وبحسب الفقه والأحكام الشرعية تأسست مذاهب متعددة أهمها الحنفية والحنبلية والشافعية والمالكية.

الاختلاف الاجتماعي:
ولأن الإنسان كما يقول العلامة الطباطبائي (رحمه الله): سائر نحو الاختلاف حسب طبعه وفطرته كما هو سائر نحو الاجتماع المدني، فالإنسان في طبيعته يستخدم الآخرين لتأمين احتياجاته وتحقيق اهدافه ولذلك لا بد أن يعيش حياة اجتماعية، واجتماع الناس لم يخل يوما من الاختلاف والتنازع على موارد الطبيعة من أرض وماء وغذاء وسكن وزراعة وصناعة وعليه فهو بحاجة الى قوانين اجتماعية إلهية لأن القوانين الوضعية لم تتوفق يوما في دفع هذا الاختلاف والفساد الحاصل من حروب ونزاعات في العصور القديمة والحديثة رغم كل ما وصلت اليه المدنية اليوم حتى انه ليعرف بعصر العلم والتكنولوجيا وحقوق الإنسان، من هنا فإن البشرية دائما بحاجة الى الهداية الإلهية والتشريع الديني والتكليف بالأحكام الشرعية لرفع هذا الاختلاف، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) «البقرة/213».
ومن جملة الأحكام الدينية لرفع الاختلاف هي الأحكام الواردة في باب القضاء ورفع الخصومات وهي من مسؤوليات الأنبياء (عليهم السلام) كما تفيد الآية المذكورة.
وقد دعا القرآن الكريم المسلمين الى وجوب التحاكم الى النبي (صلى الله عليه وآله) عند الخصومات قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) «النساء/65».

أسباب الاختلاف:
تجدر الإشارة الى بعض الأسباب التي ينشأ منها الاختلاف بحسب الرؤية القرآنية ومنها: الجهل بالحقائق فإنها لو توضحت للناس وعرفوها لاختفى الاختلاف بشأنها، فمشركو مكة وصفهم القرآن في أكثر من موضع بأنهم قوم لايعلمون.
ومنها العصبية الجاهلية: فالمشركون لو لم يتبعوا آباءهم في عبادة الأصنام عنادا وتعنتا لما اختلفوا مع الذين آمنوا من الذين اتبعوا الحق والبرهان والعقل في الإيمان بالله تعالى وحده وترك الأصنام.
ومنها حب الدنيا: فالاختلاف بين اليهود والنصارى حصل بعد علمهم بالحقائق وذلك بغيا من أنفسهم قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ) «آل عمران/19» وقد فسر المفسرون البغي بالحسد والنزاع على الدنيا والحرص على استملاك المواقع الدينية الحاصلة من تبليغ الدين بين الناس. والأنانية وتحقير الآخرين: كما نجده في تاريخ اليهود والنصارى، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) «البقرة/113».
وكان التفسير الخاطئ لبعض الآيات أحد هذه الأسباب المهمة ومنها الآيات المتشابهة فقد كان الذين في قلوبهم مرض يفسرونها بنحو خاص لإثارة الفتنة، وقد أدى اختلاف الآراء إلى الاختلاف في المواقف والتفرق الى فرق.
ومن هذه الأسباب الشيطان: وهو العامل الكبير في بث العداوة والاختلاف بين الناس بترغيبه في شرب الخمر ولعب القمار كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) «المائدة/91». وفضلا عن هذا كله دعاة التفرقة: كالمنافقين واليهود الذين لم يدخروا وسعا في اثارة الفتنة والاختلاف بين المسلمين وتشتيت كلمتهم وتثبيطهم عن الجهاد ونصرة النبي (صلى الله عليه وآله) على الأعداء ونشر الإسلام.

أضرار الاختلاف:
لاشك ان للاختلاف أعظم الضرر والخطر على وجود المسلمين، ومن هذه الأضرار:
*ضعف الأمة الإسلامية وانهيار كيانها وشخصيتها القوية المرعبة للأعداء قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ) «الأنفال/46» وقد دعا القرآن الى اتقاء الفتنة التي لا تصيب الظالمين فقط بل تعم المسلمين ايضا (الأنفال/25).
*الحروب وسفك الدماء: فالتاريخ الإسلامي شهد معارك بين المسلمين بسبب الاختلاف العقائدي والمذهبي كالتي وقعت بين الحنابلة والشافعية أو بين الأشاعرة والمعتزلة ولولا الاختلاف مع أمير المؤمنين (عليه السلام) لما وقعت معركة الجمل وصفين والنهروان.
*هيمنة الظالمين: وهذا ما شهده التاريخ بعدما غصبت الخلافة من أهل البيت (عليهم السلام)وإبعادهم عن امامة الأمة الإسلامية وقيادتها، فتسلط عليها بنو أمية وبنو العباس والعثمانيون وأخيرا الاستعمار البريطاني والأمريكي والفرنسي الى يومنا هذا. وقد اشتهرت مقولة (فرق تسدْ) لما للتفريق بين الناس من قدرة على إضعاف كلمتهم وكسر شوكتهم وعجزهم عن مقاومة العدو الذي يداهمهم ويسعى للسيادة عليهم ويمهد الطريق للسيطرة عليهم واذلالهم.

 

نشرت في الولاية العدد 80

 

مقالات ذات صله