السيد حسن بحر العلوم: المرجعية سفينة نجاة على طول المسيرة، إذ لم تعش على فتات الحكام أو تهتم بجانب دون آخر بعيداً عن واقع المسؤولية

dsfdfd

اجرى اللقاء: حيدر رزاق شمران

رجل من اسرة لها في تاريخ العلوم قدم راسخة، إذ ينتهي نسبه إلى سيد الطائفة السيد محمد مهدي بحر العلوم(قدس سره). طيب العشرة، كريم الاصل، دمث الاخلاق، عالم فاضل.. مثابر في خدمة المجتمع، يطمح الى مزيد من التطور في منظومة العطاء الاسلامي لخدمة الشباب المسلم، ذلك هو السيد حسن نـجل الشهيد السعيد آية الله السيد عز الدين آل بحر العلوم، الذي كان للولاية معه هذا اللقاء.

 

ابتداء لو تحدثوننا باختصار عن جانب من مسيرتكم في الحوزة العلمية
تدرجت في سلم الحوزة العلمية على خيرة الأساتذة سواء في مرحلة المقدمات أم في مرحلة السطوح أم في مرحلة البحث الخارج، ومن أبرزهم أصحاب السماحة: الشهيد الشيخ عباس المطراوي، والشيخ عبد الحسين آل صادق، والسيد محمد تقي السيد محمد علي الحكيم، والشهيد السيد محمد تقي الخوئي، وآية الله الشهيد السيد محمد رضا الخلخالي، وآية الله الشهيد السيد علاء الدين بحر العلوم.
وأما في بحث الخارج فقد تتلمذت على يد الإمام آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي(رحمه الله) وآية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، وآية الله الشيخ مصطفى الهرندي(حفظهما الله وأطال في عمرهما).

ما أبرز النشاطات الفكرية والثقافية التي قمتم بها؟
من النشاطات العلمية والفكرية والثقافية التي قمت بها -سواء في المهجر أم في الوطن – التركيز على اخراج بعض تقريرات الدروس الفقهية مما تمس الحاجة المعاصرة إليه كبحث الاستنساخ البشري، وبحث الاجتهاد والتقليد، ومبحث الخمس تقريراً لأبحاث استاذنا آية الله الشيخ مصطفى الهرندي.
ثم حاولت بذل الجهد من أجل الكتابة في مواضيع معاصرة رأيتُ الساحة الإسلامية بحاجة إليها وتمّ ذلك بعون الله تعالى فكانت النتاجات مؤدية للغرض وسدّت فراغاً كبيراً لمست ذلك من خلال التجاوب معها والتفاعل من قبل المهتمين والباحثين، ومن هذه المواضيع: العولمة بين التصورات الإسلامية والغربية، وجدلية الثيوقراطية والديمقراطية (مقاربة في أنظمة الحكم على ضوء الفكر الإمامي)، ومجتمع اللاعنف (دراسة في واقع الأمة الإسلامية)، والخطاب الإسلامي والقضايا المعاصرة، والمجتمع المدني في الفكر الإسلامي، والتعددية الدينية في الفكر الإسلامي، والعقد الاجتماعي والسلطة الشعبية عند الإمام علي(عليه السلام)، والإسلام والفدرالية، والقصة القرآنية (قصة يوسف أنموذجاً)، والأصول المشتركة للأديان، والحوار بين التأصيل والتنظير، وكان لي نشاط ومشاركات في عدد من المؤتمرات والندوات الدولية في أكثر من دولة.

ما أبرز نشاطاتكم في مجال معالجات الإسلام للمشاكل والمتغيرات الحديثة؟
ذكرنا آنفا أن لنا أنشطة في دراسات معاصرة.. وما بودي أن أقوله هنا: أني سعيت كثيراً في أن يكون الخطاب الإسلامي رافداً ووسيلة وطريقاً لحل الاشكاليات والمتغيرات الحديثة، فعلى سبيل المثال: بحثت التعددية الدينية والأصول المشتركة للأديان، لما لهذين الموضوعين من أهمية في عصرنا الحديث حتى أصبح من الصعوبة بمكان فهم طريقة التعامل بين أتباع الملل والأديان المتعددة، لذا حاولت جاهداً أن أسهم في درجة من إمكانية التعايش فيما بين أتباع الأديان، وتقوية الأسس المشتركة وتأصيلها.
ورأيت أيضاً ضبابية حول فهم الخطاب الإسلامي الخاص بين متوسع في دائرته ومضيّق ومهمّش، فبذلت جهداً في تسليط الضوء على تمييز الخطاب الإلهي ـ جاعلاً في حلقته ودائرته الخطاب النابع من المعصوم(عليه السلام) باعتباره يتصل بمصدر الوحي ـ عن الخطاب الإسلامي الذي هو قراءة للخطاب الإلهي ـ الديني ـ وذلك في كتابي الموسوم بـ(الخطاب الإسلامي والقضايا المعاصرة).. وعندما يتم فرز الخطاب الإسلامي المتميّز عن غيره نستطيع أن نحلّ كثيراً من الإشكاليات التي تردد بين فترة وأخرى.

كيف تقيمون دور الواقع الإسلامي الشيعي في مواجهة العولمة
الواقع الإسلامي الشيعي النظري يختلف عن الواقع الإسلامي الشيعي العملي، فالأول يمكن أن يرتبط مع العولمة في كثير من فصولها وذلك من خلال إيمانه بالدولة العالمية على يد الإمام المهدي ابن الحسن(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ثم أنه يجسد الإسلام بمفاهيمه العالمية لكونه رحمة للعالمين، ولكونه نظاماً صالحاً لكل بني الإنسان، بينما نجد أن المشكلة تكمن في الواقع الإسلامي الشيعي على الأرض اليوم أنه – بحكم الضغوط أحياناً والمشاكل التي أحدقت به وضيق الرؤية عند بعضهم- أصبح في موقع الدفاع عن مركز نقطته وواقعه دون أن يكون في وسط ومحيط تلك الدائرة.

كيف ترون الحل الأمثل للفت نظر الشباب في مجتمعاتنا نحو ريادة الدين في معالجته الواقعية للحياة
إن مشكلة الشباب المعاصر هي النظرة الضيقة تجاه الدين ورجاله، واستطيع أن أقدر أنها مشكلة متبادلة إذ لم يأخذ أصحاب الخطاب الإسلامي بنظر الاعتبار مشكلات الشباب من جميع أبعادها.. حيث اختلاط المصداق بالمفهوم، وحيث التأثر بأيديولوجيات وأفكار لم يجد الخطاب الديني الموجود حالياً حلاً لغموضها في قاموس بعض القائمين عليه.
لذلك يجب أن تكون الانطلاقة للشباب من عالم الشباب نفسه وبيئته، وقد ظهرت بعض البوادر مؤخراً تصب في هذا الغرض وهي وإن كانت جزئية وربما فردية إلاّ أننا يمكن أن نعمل على رفدها ودعمها بكل الأساليب ذات الجدوى.

هناك العديد من المجتمعات باتت تنظر إلى الإسلام على أنه دين إرهاب أو دين تخلف وانغلاق على الذات، ما الأسباب الرئيسة التي دعت إلى انتشار
هذه النظرة برأيكم؟ وما الخطوات التي ترونها مناسبة لمعالجة هذه الظاهرة؟
حينما فشلت الحروب الصليبية التي خطط لها أن تقضي على الإسلام أو أن تحوله إلى واقع غير معتد به لتجذر الحالة الإسلامية عند أبنائها -ولو عاطفياً- أخذ أعداء الإسلام والمتربصون به يفكرون في طريقة أخرى.
فكانت الحرب الفكرية والثقافية على رأس أولوياتهم، وفعلاً بدأت الحملة على أكثر من صعيد، فكان الغزو الثقافي وإشاعة ظاهرة العنف والإرهاب وإلصاقها بالمنهج الديني الإسلامي على يد بعض المنحرفين والمأجورين من أبنائه، ودسّ الكثير من التشويه والتلاعب في التراث الإسلامي بعامة، إلاّ أن المثير في الأمر أنهم قاموا بهذه المحاولة بأسلوب لا يثير أو يحرك كثيراً من العقلاء المسلمين تجاه هذه الأيادي الغريبة الوافدة بقدر ما يوجه اللوم منهم إلى الفهم الخاطئ لبعض معتنقي الإسلام، واختلط كثير من الأوراق وانطلت الفكرة على كثير من المسلمين.
وليس من السهل أن نجد حلاً قريباً يلوح بالأفق لمعالجة هذه الظاهرة لأن الصدمة بحجمها الكبير بحاجة إلى ردة فعل أكبر وهذا الشيء غير متوفر حالياً في مجال تفكيرنا وحدودنا وما آل إليه الصف الإسلامي من التفرق والتمزق بسبب الهجمة ذاتها.

كيف تستشرفون دور الإسلام وفق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في المستقبل على الصعيد العالمي وما مدى تأثيره؟
لقد كان أهل البيت(عليهم السلام) حقيقة ناصعةً على طول تاريخ الإسلام، وقد بذلوا جهداً كبيراً لإبقاء الأصالة الإسلامية شاخصة ونستطيع القول: إننا نستطيع الجزم بوجود ما يجسّد الدين المنزل على النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وذلك من خلال تراث أهل البيت(عليهم السلام) على كلّ المستويات ولاسيما على مستوى الحكم.
فمثلاً لم تمر حقبة زمنية من تاريخ الخلافة بعد النبي(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا يمكن أن تكون نموذجاً تقرأ من خلاله عظمة الإسلام وروحه وجوهره إلاّ في أربع سنوات وأشهر – وهي مدة حكم أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)- وعلى هذا القياس كيف سيكون واقع المسيرة وغاية الأهداف لو جسدت المدرسة الإسلامية في كل جوانبها السياسية والمعرفية في اثني عشر إماماً معصوماً؟
وما حلّ بواقع الحياة الإسلامية من خراب ودمار وانعطافات خطيرة جداً إنما هو بحق للابتعاد عن هذا المنهج، إلاّ أن ثقافتنا الشيعية لم تضعنا على مسافة اليأس ما دمنا نحث الخطى للسير على منهاجهم ونمهد وننتظر دولة العدل الإلهي على يد الإمام المهدي بن الحسن العسكري(عجل الله تعالى فرجه).

كيف تقيمون دور المرجعية الدينية في النجف الأشرف في بيان صيغة منهج أهل البيت(عليهم السلام) أمام أنظار العالم سواء على الصعيد الفكري أم السلوكي؟
المرجعية الدينية الشيعية هي امتداد لخط النبي والأئمة الأطهار(عليهم أفضل الصلاة والسلام) وليست امتداداً لخط هامشي او وهمي، وإنما امتداد للخط الاتصالي الواقعي الذي يجعل النقاط مرتبطة بعضها مع البعض الآخر من دون فواصل، ولهذا نجد أن تركيز النبي(صلى الله عليه وآله) للأخذ من الأئمة الأطهار(عليهم السلام) والالتفاف حولهم، وتوجيه الأئمة الأطهار(عليهم السلام) وتركيزهم للتمحور حول المرجعية الدينية وذلك من خلال ما ورد عنهم من أقوال وتوصيات كثيرة ووضع الضوابط التي تجعل هؤلاء أفراداً منحصرين.
وكانت المرجعية بحقٍ سفينة نجاة على طول المسيرة في عصر الغيبة لم تعش على فتات الحكام كما يصنع الآخرون، أو تهتم بجانب دون آخر وقضية دون أخرى بعيداً عن واقع المسؤولية، وإنما كانوا يتحركون في أوسع مساحة على الأرض وعلى كل الصعد حتى بقي الواقع الشيعي مصوناً ومحفوظاً وقوياً ضد كل الحملات التي تهاوت أمامها.. ولكن بقيت المرجعية قوية في أمرها مؤثرة في قرارها.. ولذلك احتلت المرجعية الدينية في النجف الأشرف مكانة متأصلة في أنظار كل الشرائح التي تمُتُّ أو لا تمُتُّ إلى الدين بصلة.

كلمة توجهونها إلى الشباب في مجتمعنا؟
لقد أصبح العالم قرية صغيرة ـ بحكم التقدم العلمي في مجال الاتصال ـ وهذا يعني أن هناك تأثراً وتأثيراً داخل المجتمعات، وأن هناك أفكاراً تنتقل من مجتمع إلى آخر ومن محيط إلى ثانٍ، وأن هناك قيماً متبادلة ومفاهيم متنقلة، وأن هناك شراكة حقيقية تنتج عن ذلك، وأسساً للتفكير مشتركة وتقاليد وعادات تستجد، وكما يحدث ذلك في التفكير والتنظير يحدث ذلك في الأذواق والممارسات السلوكية، تنعكس في الفن والأدب والأزياء وفي أساليب العيش عامة وأنماطه، وهذا يكون عامل التحام ووحدة، لا مدعاة فرقة واختلاف.
ولما كان الإنسان يعيش ضمن مجتمع ما ولا يمكن أن يعيش منعزلاً عن الآخرين، فلا بد من أن يوجد آليات للعيش المشترك، ولا بد من أن يتبنّى مفاهيم لهذا العيش، ولابد من أن يخلق أجواء مناسبة له، وعلى هذا فلا بد له من أن يتنازل عن بعض مصالحه للآخر، ولابد له من أن يسلك مسلكاً إيجابياً مرناً في علاقاته مع الآخر، ولابد له من اصطناع الحوار وسيلة لفهم الآخر والتفاهم والتعاون معه، ولابد له ـ إذا أراد أن يعيش آمناً مطمئناً في مجتمعه ـ أن ينبذ فكرة العنف وممارسته وسيلة لتحقيق مصالحه، وفرض إرادته.
على أبناء الوطن الواحد أن يبحثوا عن مساحات مشتركة من القيم والمفاهيم والفعل الإنساني النبيل وروح التسامح الكريم والمصالح العامة.
وعلى الجميع السعي إلى بناء علاقات إنسانية رصينة تقوم على التسامح والتفاهم والمصالح المشتركة واحترام الآخر، والتنازل عن بعض مصالحهم، وعند ذلك يمكن بناء مجتمع قوي متماسك يقوم على الإيمان بوحدة الشعب ووحدة الوطن اللتين هما هدف جميع الأطراف.
إنّ تجاوز الخلافات الضيّقة وإحلال المصالح العامة للوطن وللشعب محلها، والاستعانة بكل قيم الخير والجمال والحرية والعدل والمحبّة والتسامح والرغبة في العيش المشترك أساساً للعلاقات الإنسانية، واستثمار الانجازات العلمية الكبيرة والتطورات الحضارية العميقة، كل ذلك كفيل بترميم ما انهدم من علاقات وبناء ما انهدّ من كيانات، وبالتعجيل في إرساء ما تقوّض من مفاهيم وقيم إنسانية، هي كل ما يملك الإنسان وكل ما يبقى منه.

كلمة أخيرة:
إنني في الوقت الذي اتمنى فيه أن أرى المزيد من النتاجات الفكرية والعلمية والثقافية من العتبة العلوية المطهرة، بودي أن أكون صريحاً لأقول: أننا ما زلنا في بداية المشوار، والطريق لبناء منظومة التجدد في المجالات التي ذكرتها -أي الفكرية والثقافية والأدبية وما شابه- لا يزال في بدايته لتستوعب الطاقات التي فقدت بوصلة الالتقاء بفعل ما كنا نعانيه من عهود مظلمة جعلت الإنسان يسير في درب موحش بعيداً عن أبناء جنسه ممن يشكل معهم حلقة الوصل بعقلية نطمح أن تزرع فيها كل معاني النهوض وتسقيها من حياض أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، ليكون المنطلق هو هذه البقعة المباركة كما كان صاحبها منطلقاً للوعي الإسلامي وانتشاره وعظمته.

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله