الشيخ الرئيس «ابن سينا»

kjfdkygdlo

حمود الصراف

يحفل تاريخ المسلمين بمآثر الفخر لما قدموه من نتاجات عظيمة في مختلف العلوم، لاسيما التطبيقية التي كان لهم فيها قصب السبق، حتى صارت فتحا لأمم التي كانت غارقة في الظلمات.
ومن العلماء المبرزين في هذا المجال الفيلسوف الطبيب «ابن سينا» الذي كانت له بصمات واضحة في مجال الطب والجراحة والتشخيص السريري، ليس في زمانه فحسب، بل ان بحوثه استمرت بالعطاء ليستنبط منها أطباء عصر النهضة ما يحتاجونه من خبرات في مجال عملهم الانساني هذا.

 

الشيخ أبو علي الحسين بن عبد الله.. الملقب بالشيخ الرئيس، والمعروف عند الأوربيين باسم (Avicenna)، هو من أعظم علماء المسلمين في مجال الطب بخاصة، ومن مشاهير العلماء على الصعيد العالمي.. فقد كان فيلسوفًاوطبيبًا ورياضيًّاوفلكيًّا.
ولِدَ ابن سينا قرب بخارى – في أوزبكستان حاليًا- سنة 370هـ، ونشأ نشأة علمية؛ إذ تعهَّده والده بالتعليم والتثقيف منذ طفولته.. شبَّ محبا للقراءة والعلم، والاطلاع في المعارف والعلوم، وقد بلغ فيها ما لم يبلغه غيره وهو لم يبلغ العشرين من عمره.
وقد وصف ابن سينا من سيرته ما يغني غيره عن وصفه كما في ورد في (الوافي بالوفيات/الصفدي 12/242) فقال: (أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت المنطق وكذلك كتاب أقليدس فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه ثم توليت من نفسي حل بقية الأشكال بأسره ثم انتقلت إلى المجسطي ولما فرغت من مقدماته وانتهيت إلى الأشكال الهندسية قال لي الناتلي تول قراءتها وحلها بنفسك ثم اعرضها علي لأبين لك صوابه من خطئه، وما كان الرجل يقوم بالكتاب وأخذت أحل ذلك الكتاب فكم من شكل ما عرفه إلا وقت ما عرضته عليه وفهّمته إياه، ثم فارقنا الناتلي واشتغلت أنا بتحصيل العلم من النصوص والشروح من الطبيعي والإلهي فصارت أبواب العلم تنفتح عليّ ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرؤون عليّ علم الطب وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة).

نبوغ الشيخ الرئيس وعلو صيته:
نبغ ابن سينا في الطب حيث قام بعلاج المرضى واتته فرصة عظيمة عندما نجح في علاج الأمير نوح ابن منصور وهو في السابعة عشر من عمره، ذلك الأمر الذي عجز عنه مشاهير الأطباء، ونال شهرة عظيمة، وأنعم أمراء هذا البيت عليه، وفتحوا له دور كتبهم؛ فاستفاد منها كثيرا وعمره لم يأتِ بعدُ الثامنة عشر.
وبعد العشرين من عمره انصرف ابن سينا إلى التأليف والكتابة والاشتغال بالفلسفة والطب، حتى إذا ما وصل إلى سن الثانية والعشرين صار من أشهر أطباء عصره، وقد أسند إليه منصب رئيس وزراء شمس الدولة أمير ولاية همذان، ثم خدم الأمير علاء الدين في أصفهان.

إكتشافاته التي سبق بها غيره:
قدم ابن سينا للإنسانية أعظم الخدمات والابتكارات التي فاقت عصرها في جانب الطب؛ فقد اكتشف العديد من الأمراض.
فكان أول من كشف عن الدودة الطفيلية (الإنكلستوما) وهو أول من وصف التهاب السحايا، وأول من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، وأوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي.
وفي مجال الأمراض التناسلية وصف بدقَّة بعض أمراض النساء مثل: الانسداد المهبلي والإسقاط، والأورام الليفية، وتحدَّث عن الأمراض التي يمكن أن تُصيب النفساء مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسبِّبه من أورام وحميات حادَّة..
وكشف ابن سينا عن طرق العدوى الخاصة ببعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وكانت له مقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر طرقا عدَّة لإيقاف النزيف؛ سواء بالربط أم بادخال الفتائل أم بالكي بالنار أم بدواء كاوٍ أم بضغط اللحم فوق العرق..

مؤلفاته:
ترك ابن سينا آثارًا قيمة فقد وضع ما يزيد على مئة مؤلَّف ورسالة في مجالات المعرفة والعلوم المختلفة، عُدَّ بعضها موسوعاتٍ ودوائر معارف.
ومن أهمها وأنفسها القانون في الطب، وكتاب الشفاء، وكتاب أسباب حدوث الحروف، وكتاب المعاد، وكتاب أسرار الحكمة المشرقية، والإشارات، وأسرار الصلاة -وهو في ماهية الصلاة وأحكامها الظاهرة وأسرارها الباطنة- وله أرجوزة في الطب والنبات والحيوان.
ترجمت كتبه في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، ولقرابة ستة قرون كانت كتبه المرجع العالمي في الطب، واستخدِمت كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعًا، وظلَّت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر.
توفي رحمه الله تعالى في همذان سنة 428هـ.

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله