تأمّلات في نهج البلاغة

 

254789_9

عبد الرحمن الشريفي

من كتاب الإمام علي امير المؤمنين(عليه السلام) الى المنذر بن الجارود العبدي(1)، بعد أن خان في بعض ما ولاه من اعماله: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَتَسْلُكُ سَبِيلَهُ). أي ان والدك بصلاحه في سيرته غرني بأن قستك عليه عند تعيينك واليا على بعض الأمصار لتقتدي به وتسير على نهجه.
ولكن الإمام يستدرك فيقول: (فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَاتَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً وَلَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً)
فيكشف الامام ان هذا الرجل يأتي اموراً تكشف فساد سيرته، ويستنتج من ذلك انه لا يملك قيادة نفسه حتى أمسى تبعا لما يحب ويميل هواك. إلى ان امسى مجردا من مقومات العمل الصالح.
فيؤكد الإمام ذلك بقوله (ولا تبقي لآخرتك عتاداً)، عتاد جمعها اعتدة وهي كناية عن القوة الذاتية الفاعلة لإتيان العمل الصالح، وبهذا فإنه امسى لا يملك القوة التي يعتد بها من صالح الأعمال لآخرته.
ثم تابع الإمام سيرة المنذر المنحرفة الى الفساد فيقول(عليه السلام): (تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ) أي ان انصرافك كليا لدنياك وبنائها لتسعد فيها بالمال الحرام هو خراب لآخرتك التي تشقى بها. وهذه اشارة الى ان الذي يسعى للحصول على المال الحرام قد قطع صلته بالعمل الصالح لآخرته.
ثم يقول(عليه السلام): (وَتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ) أي انه يقطع المال ويفيضه على معارفه وقومه بقطيعة دينه، أي بهجران دينه وترك العمل بتعاليمه حبا للمال الحرام.
بعد هذا يوجه الإمام كلاما رادعا لواليه المنذر بن الجارود والحكم بحقارته ونقصان عقله فيقول(عليه السلام): (وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ) والإمام بذلك يضرب مثل السوء للمنذر، فإن كان حقا ما نسب اليه فان جمل اهله وشسع نعله افضل منه، لأنه أعطى لهواه القيادة وطمس عقله بهجرانه لدينه فـ(جمل أهله) هو الجمل الذي يوقفه رئيس القبيلة لأفراد قبيلته فيسوقه كل منهم ويصرفه في حاجته فهو ذليل حقير بينهم، أما شسع النعل وهو السير الذي يمسك النعل بأصابع القدم، وضرب المثل به للاستهانة لابتذالها بوطء الأقدام لها في التراب.
بعد ذلك يذكر الإمام صفات الحاكم غير العادل الذي ليس له الأهلية في قيادة المجتمع فيقول: (وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدّ َبِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ)، فليس بأهل ان يسد به ثغر وهو الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو، فهو لا يصلح ان يكون قائدا للجيش، او ينفذ به أمر، فهو الذي يسعى في انجاز مصالح الدولة او يعلى له قدر أي الذي تسمو به منزلة الدولة ويكون واجبه لها او يشرك في امانة وهذا يعني أن الخلفاء امناء الله في بلاده فمن ولوه من قبلهم فقد اشركوه في امانتهم أو يؤمن على جباية أي جمع واردات الدولة.
ويختم الإمام كتابه بقوله (فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ الله) فأقبل الي كناية عن العزل وان هذا الحسم السريع هو منهج الإمام علي (عليه السلام) مع الولاة المنحرفين.
———————-
(1)ان والد المنذر وهو الجارود بن خنيس كان نصرانيا أسلم على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحسن اسلامه، ولما قبض الرسول وارتد كثير من العرب فإن الجارود حذر قومه من الارتداد وقال لهم استمسكوا بدينكم وكان فيهم مطاعا فاستمعوا له وقتل بارض فارس سنة احدى وعشرين للهجرة.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله