يتجلّى مولداً ومثلاً

addfa

عذراء عبد الجبار الياسري

حين يكون التاريخ مجسداً بشخوص تكون نماذج تصطفّ على كلا النقيضين «الخير والشرّ» نجد صيغة حياة بشرية حكمت هذا القدر من المتلازمات الثنائية، فهو الصراع بين هذين الطرفين العصيّين على الالتقاء.
ومن سوء الأقدار التي صنعها الإنسان أن تجد أمام كل خير شرا يناصبه العداء ويشن عليه الحروب ويحوك ضده الدسائس والمؤامرات..

 

اللافت للنظر انه مهما امتدت يد الشر بالسوء لا تجد ردا بالمثل من الخير في كثير من الاحيان، وفي هذا المعنى قال تعالى: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ) «المائدة/28» فالشرّ نفسٌ مضطربة لاتعرف السلام ولا الرضى وهمها الأكبر هو السعي الحثيث لخلق عيب ببنية الخير حيا وميتا في مزاولة دؤوبة لمحقه وإزالته عن الوجود، ومما يدفعه الى ذلك نوازع النقص والإحساس بالدونية فضلا عن الحسد الذي يثيره الاطمئنان والسلام والرضى عند أهل الخير وان عدموا حطام الدنيا.
مثال وصورة تاريخية
ومن تلك الصور التاريخية لهذا الصراع نرى مثلا قرآنيا في هابيل وقابيل، ونرى مثلا آخر في تضاد بني هاشم وبني أمية جيلا بعد جيل، فنرى عداء أبي سفيان للنبي(صلى الله عليه وآله) يسبقه عداء أقدم لآبائهما وأجدادهما، وبعدهم عداء معاوية للامام أمير المؤمنين(عليه السلام) ويزيد للحسين (عليه السلام) واستمر هذا العداء بعدهم الى معاداة سلاطين بني أمية وبني العباس تجاه الأئمة الهادين الإثني عشر، وكأن الخير والشر يُتوارثان ـ وهناك أمثلة تاريخية أخرى كثيرة خارج سياق حديثنا ـ.
ونجد أن إصرار الشر التاريخي على إزاحة الخير من الوجود ينطلق من دون دواع مقنعة تذكر، حتى في صراعه السياسي يستطيع اختيار بدائل غير الإبادة والجريمة الشائنة.
وفي المقابل ان صف الخير بما يحمل من روح إنسانية خالدة ومقام سامٍ ومنزلة إلهية يعطي مؤشرا أكبر على جرأة الشر وتماديه وانحرافه الخطير عن السبل التي تجعل من الأرض مكانا ممكنا للعيش بكرامة وطمأنينية.

النموذج الحي للقيم العليا
إن الصفات الجليلة القدر والرعاية العظيمة من لدن البارئ لهذه الصفوة الخيّرة من الرموز الإنسانية أثارت نقمة وحسد المتجبرين فكان هذا النقيض الجميل الرائع تحديا وثورة تهتف بها أنفاسهم ووجودهم الذي يحف به الضعفاء المظلومون التواقون للإنصاف، والأبطال المنشدون ترنيمة الحرية والعزة، والحكماء العقلاء الذين وجدوا ضالتهم في هذا النور الساطع بالوجدان متغلغلا بالروح لتسمو .
وكان الطراز الفذ الذي يجسد أمة الصالحين بكل انجازاتها الروحية والفكرية والحضارية رجل واحد يختزل ميراثها وواقعها ومستقبلها المشرق، ليضع الامة -في رؤى ملهمة- في معادلة الوجود، ويجعل الانسان عضوا حيويّا متناغما يؤدي دوره الأسمى في توازنات الكون بين كفتي المادة والروح للوصول الى الخلاص والسعادة الأبدية، هذا الرجل الأمة الذي ندق باب ميلاده في هذه الأيام هو علي بن ابي طالب(عليه السلام).

كرامة الولادة
كانت كرامة ولادته وحدها عنوان الكمال، على الرغم من السعي الحثيث للشر في طمسها وإخفاء معالمها، وقد توعد الله تعالى في محكم كتابه هؤلاء قائلا: «يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ «التوبة/32» .
فأن ينشق جدار الكعبة أمر لا تطيقه عقول البشر، إلا من آمن واهتدى، وليس بمتعارف أن تلد امرأة بأقدس بقعة على الأرض في بيت الله العتيق، والسدنة لم يدعوا لدخولها سبيلا.
فمن هو القادم لتفتح له أبواب المقدسات الحصينة؟
إنها ولادة أمة، ونور الإمامة الذي يتمم نور النبوة ليكتمل الدين وتتم نعمة الله على العالمين، فأسبغ تعالى من فيض رحمته كينونة استثنائية لهذا الوليد الوتر، عدة لزمن استثنائي قادم، بل هو الزمن الذي من أجله خلقت الأزمان، ليتحقق وعد الله ورحمته للعالمين.
تلك الكرامة لا تطيقها الصدور المحتقنة بوباء الغل، فهي لا تعي أن الكمال يُولد مغايرا بعيد المنال ويعيش ويترعرع في حضن ليس كمثله حاضن من نفائس الأرواح المغدقة بالرحمة والهدى، ليكبر فتى ليس كمثله فتى شهد جبرائيل(عليه السلام) أنه لافتى إلا هو، ليضعه البارئ بعد نبي هذه الامة (صلوات الله عليه وآله) نموذج الرسالة الآدمي وقرآنها الناطق والمؤمن في سوره الهادية وأباً للكوثر الذي فاض بسفن النجاة.

خصائصه الفريدة والنقيض السيء
عودا على بدء، يضع أمير المؤمنين(عليه السلام) ملامح هذا البون الشاسع في الأخلاقيات والسلوك بين هذين النقيضين فيقول: « وَالله مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ وَ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ الله مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ» فشتّان ما بين الاثنين.
ثم يصف في موضع آخر كيف ينغمس نقيضه في مهاوي الغواية وكيف يتلبس بلباس إبليس من رأسه الى أخمص قدميه، فيجري الشيطان في روحه ودمه جريانا، إذ يقول لمعاوية: «وَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلَابِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا ..» الى ان يقول: «أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَ بَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَ جَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَ الدَّمِ» وبهذا القول يكون يعسوب المؤمنين قد دق مسمارا آخر في نعش كنه الشر الذي يبدو على غير ما هو عليه. وليكون منهج الخير واضحا لا يتردد إمام المتقين في كل مناسبة وحدث في أن يفرق بين الخطوط المشتبكة والصفوف المتلاحمة لأن من وسائل الشر وطرائقه التضليل والتزييف فيقول (سلام الله عليه) ردا لضلالة ابتدعها مؤسسها: « فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ…» فسدَّ بذلك الطريق أمام متخرصٍ أراد خلط الأوراق والمنازل والمقامات ليبقي على ولاء من اتبعوه من المفتونين بالباطل.
ان ولادة خير الأمم لابد لها من ولادة غير عادية تتمخض عن رجل استثنائي قادر على وضع حجرها الأساس ورص بنيانها والمشاركة في رسم خرائطها مع خير الأنام(صلى الله عليه وآله)، ذلك الرسم الذي خطه أهل البيت الأطهار(سلام الله عليهم)بالدم المبدع والعقل المنير الخلاق والإيمان الصادق واللطف الإلهي المبين.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله