بحوثٌ في أصل العدلِ الإلهيِّ (الإنسانَ مُختارٌ في جميع أفعاله)

akaed

مرتضى علي الحلي

 إنَّ حرية إرادة الإنسان في الحياة الدنيا لهي من الضروريات والبديهيات التي يدركها كل إنسان في وجدانه لما يجده في نفسه من قدرة على اتخاذ القرار والاختيار بقصد ووعي وحكمة إلاَّ أنَّ الاتجاهات الكلامية والآيديولوجية في الداخل الإسلامي منذ زمن بعيد عقّدتْ هذه المسألة الحساسة في حياة الإنسان وأخضعتها لأنماط فلسفية دقيقة ربّما تصبُّ في مصلحة مذهبٍ ما حتى ظهرتْ فرقة الأشاعرة التي تفلسفت في ماهية واقع الأفعال التي تصدر عن الإنسان.

 

ذهبتْ الأشاعرة إلى أنَّ الواقع هو صدور كل أفعال الإنسان عن الله تعالى استقلالاً، وأنَّ الإنسان مُجبرٌ في أفعاله ولاخيار له في ما يصدر عنه، لدرجة أنَّ الأشاعرة قالوا أنَّ فعل الإنسان هو فعل الله تعالى من دون أن يكون للإنسان أي دخل في التحكم بأفعاله، وبهذا الزعم الباطل سلبوا عن الله تعالى أصل العدل ونسبوا الظلم اليه – تعالى عن ذلك علواً كبيرا- في ما لو أذنبَ الإنسانُ وهو مجبورٌ على فعله.
ومع وضوح بطلان هذا الإتجاه الأشعري الجبري إلاَّ أنَّ بعض الأشاعرة أراد أن يكون مرناً نوعاً ما في مسألة اختيار الإنسان وحريته فقالوا: إنَّ ذات الفعل من الله تعالى والإنسان إنما له الكسب وهو تحقيق الفعل في الخارج الموضوعي على مستوى الطاعة أو المعصية، بمعنى أنَّ الإنسان إذا صمم وعزم على احداث فعلٍ ما؛ خلقَ اللهُ تعالى هذا الفعل عقيب تصميم الإنسان مباشرة.
وفي قبالة هذا الاتجاه الأشعري ظهرتْ فرقة المعتزلة لتذهب إلى أبعد من ذلك وأخطر، إذ قالتْ بالتفويض، وهو يعني أنَّ الأفعال الصادرة من الإنسان كلها واقعة بتأثيره وباستقلال عن الله تعالى كليّاً وليس لله سبحانه أي دور أو أثر فيها سوى افاضة الوجود على الإنسان من أول الأمر وتركه وشأنه، وهذا هو التفويض الفلسفي الذي يعني أنَّ الله تعالى خلق الإنسان وفوض الأمرَ إليه ، مما جعلهم يصلون إلى درجة الاستغناء بقاءً عن الله تعالى، وهم بهذا الإتجاه سلبوا صفة العدل وأصالته عن الله تعالى وحدوا من سلطته المُطلقة على الوجود ليُشابهوا اليهود في مقولتهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(المائدة64).
أمر بين أمرين :
وأما الإمامية الإثنا عشرية فقد قالوا بمقولة الوسط والإعتدال وهي نظرية (أمر بين أمرين فلا جبر ولا تفويض) المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ونصها انه قال: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين). قال الراوي: قلتُ وما أمر بين أمرين؟ قال: (مَثَلُ ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنتَ أنتَ الذي أمرته بالمعصية)(الكافي:الكليني:ج1:ص160).
وقد ذكرَ العلامة الحلي(رحمه اللهُ تعالى) دليله على حرية ارادت الإنسان وإختياره في صدور أفعاله منه فقال: (إنَّا فاعلون بالإختيار والضرورة (البداهة) قاضية بذلك للفرق الضروري بين سقوط الإنسان من سطح ونزوله منه على الدرج، وإلاَّ لأمتنع تكليفنا بشيء فلا عصيان ولقبُحَ أن يخلق الله تعالى الفعل فينا ثم يُعذبنا عليه، وللسمع أي والأدلة السمعية النقلية قاضية هي الآخرى بذلك الإختيار) (شرح الباب الحادي عشر:العلامة السيوري الحلي/ص71).
الحس والوجدان:
إنَّ العلامة الحلي (رحمه الله تعالى) في دليله هذا قد أحالَ المسألة وتعقلها إلى الحس والوجدان والبداهة وقطعيّة دلالة الأدلة النقلية في افادتها لمعنى اختيار الإنسان وإرادته وذكر انّا نجدُ فرقاً ضرورياً بين صدور الفعل من الإنسان بتبع قصده ووعيه وخياره كالنزول من السطح على الدرج وبين صدور الفعل لا كذلك كالسقوط من السطح قهراً أوغفلةً فإنّا نقدرُ على الترك في النزول الاختياري ولا نقدر على الترك في السقوط القهري من السطح وهذا أمرٌ معلومٌ بالوجدان والحس، ولوكانت الأفعال ليست منا صدوراً -أي أنا مجبرون عليها- لكانتْ تقع على وتيرة واحدة من غير فرقٍ بين الاختيار والقهر ولكن الفرقَ حاصلٌ بالحس والوجدان فيكون في النتيجة أنَّ صدور الأفعال منا اختياراً وهو المطلوب، خلافاً لمذهب الأشاعرة الجبري.
ثمَّ إنَّ الإنسان لو لم يكن مُوجِداً لأفعاله لامتنع تكليفه، لأن التكليف الإلهي هو فرعُ قدرة الإنسان المُكلّف على الإمتثال عقلا وشرعا، والتكليف بغير المقدور محالٌ عقلاً، ومع انجبار الانسان على أفعاله فلا قدرة له وجوداً، ومن ثم لايصح تكليفه لأنّه لو كُلِّفَ وهو بهذا الحال لكان ذلك تكليفا بما لا يطاق وهو باطل عقلا واجماعاً، مما يُمثِّل ذلك قبحاً وظلماً، والله تعالى منزّه عن الظلم وفعل القبيح، وإنَّ القرآن الكريم قد نسب الأفعال صدوراً إلى الإنسان مباشرة ورتب عليها آثارها وأحكامها.
قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)(البقرة79).
وهنا أثبتَ القرآن الكريم إضافة وإسناد الكتابة إلى الكتّاب وبأيديهم مباشرةً.
ومفاد نظرية الأمرُ بين الأمرين هو أنَّ أفعال الناس صدوراً ووقوعاً هي منوطةٌ بمقدمتين رئيستين: المقدمة الاُولى:حياة الناس وقدرتهم وعلمهم.
المقدمة الثانية: مشيئتهم واعمالهم.
والمقدّمة الاُولى تُفاضُ من الله تعالى وترتبط بذاته الأزلية ارتباطاً ذاتياً وخاضعة له، يعنى أنّها عين الربط والخضوع، لا أنّه شيء له الربط والخضوع وعلى هذا الضوء لو انقطعت الافاضة من الله سبحانه وتعالى في آن ما انقطعت الحياة فيه حتماً. أما المقدّمة الثانية فتأتي بإرادة العباد عند فرض وجود المقدمة الاُولى، فهي مرتبطة بها في واقع مغـزاها ومتفرعة عليها ذاتاً وعليه فلا يصدر فعل من العبد إلاّ عند افاضة كلتا المقدمتين، وأمّا إذا انتفت احداهما فلا يعقل تحققه، وعلى أساس ذلك صحّ إسناد الفعل إلى الله تعالى كما صحّ إسناده إلى العبد.
مثال يميز بين النظريتين:
ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً عرفياً لتمييز كل من نظريتي الجبر والتفويض عن نظرية الإمامية بيانه: أنّ الفعل الصادر من العبد خارجاً على ثلاثة أصناف:
الأوّل: ما يصدر منه بغير اختياره وإرادته، وذلك كما لو افترضنا شخصاً فقد قدرته واختياره على تحريك يده، ففي مثله إذا ربط المولى بيده الشلّاء سيفاً قاطعاً، وفرضنا أنّ في جنبه شخصاً راقداً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع عليه فيهلكه حتماً ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الفعل خارج عن اختياره ولا يستند إليه، ولا يراه العقلاء مسؤولاً عن هذا الحادث ولا يتوجه إليه الذم واللوم أصلاً بل المسؤول عنه إنّما هو من ربط السيف بيده ويتوجه إليه اللوم والذم، وهذا واقع نظريّة الجبر وحقيقتها.
الثاني: ما يصدر منه باختياره واستقلاله من دون حاجة إلى غيره أصلاً، وذلك كما إذا افترضنا أنّ المولى أعطى سيفاً قاطعاً بيد شخص حر يملك تنفيذ ارادته وتحريك يده ففي مثل ذلك إذا صدر منه قتل في الخارج يستند إليه دون المعطي وإن كان المعطي يعلم أنّ إعطاءه السيف ينتهي به إلى القتل، كما أ نّه يستطيع أن يأخذ السيف منه متى شاء، ولكن كل ذلك لا يصحح استناد الفعل إليه فانّ الاستناد يدور مدار دخل شخص في وجوده خارجاً، والمفروض أنّه لا مؤثر في وجوده ما عدا تحريك يده الذي كان مستقلاً فيه، وهذا واقع نظريّة التفويض وحقيقتها.
الثالث: ما يصدر منه باختياره وإعمال قدرته على رغم أ نّه فقير بذاته، وبحاجة في كل آن إلى غيره بحيث لو انقطع منه مدد الغير في آن انقطع الفعل فيه حتماً، وذلك كما إذا افترضنا أنّ للمولى عبداً مشلولاً غير قادر على الحركة فربط المولى بجسمه تياراً كهربائياً ليبعث في عضلاته قوّةً ونشاطاً للعمل، ليصبح بذلك قادراً على تحريكها وأخذ المولى رأس التيار الكهربائي بيده، وهو الساعي لايصال القوّة في كل آن إلى جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آن عن السلك الكهربائي انقطعت القوّة عن جسمه وأصبح عاجزا .
وعلى هذا فلو أوصل المولى تلك القوّة إلى جسمه وذهب ذلك الشخص باختياره وقتل شخصاً والمولى يعلم بما فعله ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما، أمّا إلى العبد فحيث إنّه صار متمكناً من إيجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولى القوّة إليه وأوجد القدرة في عضلاته وهو قد فعل باختياره وإعمال قدرته، وأمّا إلى المولى فحيث إنّه كان معطي القوّة والقدرة حتّى حال الفعل والاشتغال بالقتل مع أنّه متمكن من قطع القوّة عنه في كل آن شاء وأراد.
واتماما للموضوع نقول: ان الحق تعالى لا ينسب اليه الظلم وان كان هو الذي اعطى العبد القوة عليه، لأنه قد نهى عنه واوجب العقوبة عليه، وفي الوقت نفسه ينسب فعل الخير الى الله تعالى، لأنه هو الذي اعطى القوة عليه، وحث ووعد عليه بالثواب الجزيل.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله