مدرسة الإمام علي(ع) في استنباط الأحكام من القرآن الكريم

4M4G7930

واثق زبيبة الموسوي

مدرسة الإمام علي(عليه السلام).. جامعة إسلامية ومصدر خصب للعلم، وينبوع مترع يفيض على الأفكار والقلوب بصنوف العلوم والمعارف، فازدهر بها العلم وأخصبت بها القيم الخالدة، فاتجهت الشعوب للنهل منها على ما هم عليه من تباين جنسياتهم واختلاف ألوانهم ومعتقداتهم، فأنجبت خيرة الرجال، وصفوة العلماء، وجهابذة السياسة والاجتماع والأدب.. 

 

ومن هذه العلوم: علم تفسير القرآن، إذ كان الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) محيطا بالقرآن وعلومه، متيقنا أن فيه جميع الأحكام الشرعية صراحة أو ضمنًا، فكان يقول بصدد ذلك: «إن الله لم يك نسيًا».
ولذلك كان كثيرًا ما يحتج بالقرآن ويتلو الآية التي يستند إليها لبيان الحكم الشرعي.
ومن الاسس التي سار عليها الامام (عليه السلام) في التعاطي مع القرآن الكريم نذكر الآتي:

1- الاستنباط من ظاهر القرآن الكريم:
كان(عليه السلام) يلتزم بظاهر القرآن الكريم حين لا يرى قرينة تقتضي صرفه عن ظاهره، فمثلا حمل القرآن الكريم على ظاهره عندما حكم ببراءة امرأة اتهمت بالزنا لأنها ولدت بعد ستة أشهر من زواجها، فجمع بين قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)(البقرة:233) وقوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا)(الأحقاف:15) فقال: الحمل ستة أشهر والفصال أربعة وعشرون شهرًا، أي إنه طرح مدة الرضاعة وهي سنتان من مجموع مدة الرضاعة والحمل وهي ثلاثون شهراً فبقيت ستة أشهر، فجمع بين ظاهر كلتا الآيتين وحكم بهما.
2- حمل المجمل على المبين:
المجمل هو ما لم تتضح دلالته، والمفسر: هو ما ظهر المراد منه دون الحاجة إلى بيان، وقد حمل(عليه السلام) مجمل القرآن في قوله تعالى:(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)(المائدة:95) على مفسره في مواضع أخرى، إذ ورد أنه سأل رجل عليا عن الهدي ممَّ هو؟ فقال: من الازواج الثمانية، فكأن الرجل شك، فقال له علي: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل سمعت قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ)[المائدة:1]. قال: نعم، فقال: فهل سمعته يقول: «وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ» [الحج:34] قال: نعم، قال: فسمعت الله يقول: «مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ» [الأنعام: 143، 144]. قال: نعم، قال: فهل سمعت الله يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» إلى قوله تعالى: «هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ» [المائدة:95]. فقال: نعم، قال: فقتلت ظبيًا فماذا عليَّ؟ قال: هدي بالغ الكعبة.

3- حمل المطلق على المقيد في القرآن الكريم:
المطلق: هو ما دل على معنى شائع في جنسه(اصول الفقه للمظفر 1/224)، وقد حمل أمير المؤمنين مطلق القرآن على مقيده في استنباط الحكم، إذ حمل مطلق الأمر بالقطع في آية السرقة على مقيده في آية المحاربة بعدم القطع إلا مرتين، وعدم قطع أكثر من يد ورجل عند تكرار السرقة، فإن زاد وسرق مرة ثالثة ورابعة لم يزد على ذلك، ويعزره بدل القطع لأنه حمل قوله تعالى: «والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»[المائدة:38] على آية المحاربة: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ» [المائدة: 33]. وقال: إن الله لم يزد على قطع يد ورجل في آية المحاربة، ولذلك كان يعاقب مثل هذا بالسجن.

4- العلم بالناسخ والمنسوخ:
النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب متأخر، ويقول الزركشي: قال الأئمة: ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وعلى هذا المعنى يؤكد أمير المؤمنين علي بن أبى طالب (عليه السلام)، وذلك عندما عاتب احد القضاة بقوله: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: (هلكت وأهلكت).

5- مراعاة لغة العرب:
ومن منهج أمير المؤمنين في فهم القرآن الكريم النظر في لغة العرب، كما فهم من قوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ»[البقرة:228] أن المراد بالقروء الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة.

6- العلم بمناسبة الآيات:
إن العلم بالمناسبة التي نزلت فيها الآيات، والسبب الداعي لذلك يفيد في فهم معنى الآية واستنباط الحكم منها، لأن بيان النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، ولقد بلغ أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذلك مبلغًا من العلم بأسباب نزول الآيات حتى قال: «سلوني عن كتاب الله تعالى، (فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار) وفي رواية:(والله ما أنزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت).

7- تخصيص العام:
العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد(ذكرى الشيعة في احكام الشريعة 1/47) وقاعدة العموم، كل لفظ عام باق على عمومه حتى يرد التخصيص، وقد يرد من الشارع ما يدل على قصر العام على بعض أفراده وهذا هو تخصيص العام.
وقد ورد عنه(عليه السلام) ما يفيد قوله بتخصيص العموم، فقد سئل (عليه السلام) عن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال(عليه السلام): (عدتها أبعد الأجلين) أي إنه خص عموم الآيتين: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»[البقرة: 234]، و«وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» [الطلاق:4]، فالحامل المتوفى عنها زوجها إذا وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرة أيام فإنها تكمل المدة ولا تعمل بعموم الآية الثانية؛ لأن الأولى تخصصها، وإن أكملت المدة فلا تنقضي عدتها إلا بوضع الحمل؛ لأن عموم الآية الأولى مخصص بالثانية، فكل من الآيتين عام في وجه، وخاص في وجه آخر، تخصص إحداهما الأخرى عنده.
هذه بعض الأسس التي سار عليها أمير المؤمنين في استنباط الأحكام من القرآن الكريم وفهم معانيه، وهي ترشد محبيه وأبناء المسلمين المخلصين في كيفية التعامل مع كتاب الله سبحانه وتعالى.
وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّ علياً(عليه السلام) كان بحق الحبر الاعظم والعالم الربّاني، المؤيّد بالتأييد الإلهي، لا يجاريه ولا يشاركه فيه أحد مهما أوتي من مناعة علمية جامعة، وحيوية ثقافية كاملة.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله