المواقف المستجدة في حياة الإمام علي عليه السلام

designs_by_mustafa20-d4z4jgw

أ.م.د. عباس علي الفحام

سجل الإمام علي(عليه السلام) المواقف الجديدة في حياته بأسلوب جديد غير معهود من جهة المبنى والمعنى.
ولا ريب في أنّ عصر الإمام عصر فتن ونزاعات تقاذفته الأهواء والشبهات، فلا يتبين الحقَّ مَنْ لم يُعطَ حظّاً من البصيرة، لذلك كان(عليه السلام) يكرر دائماً أَنَّه مقيم على سنن الحق في جوادّ المظلَّة، وأنَّه على الطريق الواضح يلقطه لقطاً، وأنَّه على يقين من دينه.
وكانت هذه المواقف الجديدة تستدعي استنباط ما يناسبها من معانٍ وتقديمها بصيغ جديدة.

فمن تلك المواقف التي مر بها الإمام اختلاف النّاس بعد وفاة الرسول الكريم حول الخلافة، فقيل له إنّ قريشاً احتجّت بأنها شجرة الرسول(صلى الله عليه وآله سلم) فقال(عليه السلام): (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة).
ومن ذلك قوله(عليه السلام) لعمّار بن ياسر وقد سمعَه ينصح المغيرة بن شعبة: (دعْهُ يا عمّار، فإنه لم يأخذ من الدين إلاّ ما قاربه من الدنيا، وعلى عمد لبّس على نفسه، ليجعل الشبهاتِ عاذراً لسقَطاتِهِ).
ومن ذلك ما مرّ على الإمام حين لُبِّسَ على أصحابه بعد قضية التحكيم في قولهم ((الحكمُ لله لا لكَ يا عليّ)) وأصبحوا يدعَوْنَ في ما بعد بالخوارج فقال(عليه السلام): (كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل).
ومنه قوله للزبير بن العوّام: (عَرَفْتَني في الحجاز وأنكرتني بالعراق ، فما عدا ممّا بدا) وأصبح قوله (ما عدا مما بدا) مثلاً لجدَّتها.
وسُئِلَ الإمام: بمَ غلبْتَ الأقران؟ فقال: (ما لقيتُ رجُلاً إلاّ أعانني على نفسهِ) مشيراً إلى تمكن هيبته في النفوس.
ومدحه رجلٌ وكان متَّهِماً له في نفسِه فقال(عليه السلام): (أنا دونَ ما تقولُ وفوقَ ما في نفسك). بينما قال(عليه السلام) في رجلٍ صادق بعد أنْ اكثر من إطرائه: (لا تَظُنّوا بي استثقالِ رَفْعَ الحقِّ إليِّ، فإنَّه من استثقلَ الحقَّ أنْ يُقالَ له كانَ العملُ به عليه أثقلَ).
وعلَّقَ ابن أبي الحديد فقال: وذلك معنى لم اسمع فيه منثوراً ولا منظوماً.

أقوال ليس لها سابق
ومما عدَّ ابن أبي الحديد مما اسماه (أمثالاً مخترعة لم يُسبق بها) قوله(عليه السلام): (لا تجتمعُ عزيمةٌ ووليمة)، وقوله: (ما أنقضَ النومَ لعزائم اليوم) ، وقوله: (أمحى الظّلم لتذاكيرِ الهمم).
ومما حُفِظَ للإمام من أمثال قوله: (من أراد البقاءَ ولا بقاء فليخفِّف الرداء) قيل: ما خفّةُ الرداء؟ قال: (قلّة الدَّين)، وسُمِّيَ الدَّينُ رداءً كقولهم (دينُكَ في ذِمَّتي وفي عنقي ولازمٌ في رقبتي) وهو موضع الرداء وهو الثوب او البرد الذي يضعه الإنسان على عاتقيه وبين كتفيه فوق ثيابه .

قوله في أصحاب الجمل
وقال الإمام في خطبة وصف فيها أصحاب الجمل: (قد أرعَدوا وأبرَقوا وَمَعَ هذين الأمرين الفَشَل، ولسنا نُرْعِد حتى نُوقِع ولا نُسيل حتى نُمطِر) .
والمعنى إنّ تهديد أولئك مثل زمجرة الرعد والبرق التي لا يعقبها مطر أمّا نحن فأفعالنا تسبق أقوالنا.
فقوله: (ومع هذين الأمرين الفشل) إشارة إلى (وجه الرذيلة وذلك أنّ التهديد والتوعُّد قبل إيقاع الحرب والضوضاء والجلبة أمارة للجبن والعجز والصمت والسكون أمارة الشجاعة).
وقد أشار إلى ذلك الإمام كثيراً وهو يعلّم أصحابه كيفيّة الحرب كقوله: (أميتوا أصواتَكُم فإِنّه أطردُ للفَشَل) ولذلك نفى الإمام تلك الصفة عن نفسه وأصحابه، فكما أنَّ فضيلة السَّحاب أنْ يقترنَ وقوعُ المطر منه برَعْده وبَرْقِه وإسالتِه بأمطاره، كذلك أقواله مَقرونةٌ بأفعاله لا خُلْفَ فيها.
ونحو ذلك قوله: (إنّي فقَأْتُ عينَ الفِتنة) ويريد: إني أقدمتُ على إطفاءِ نار الفتنة (حرب الجمل) بعد أن لم يجرؤ على ذلك أَحَدٌ غيري.
المواقف الجديدة -إذن- كانت باعثا من بواعث الجدة والابتكار في كلام علي(عليه السلام)، سجلها أمير المؤمنين في كلامه بأبهى صورة وأدق معنى واستقصاء.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله