تأملات في نهج البلاغة

254789_9

عبد الرحمن الشريفي

عن ابي جحيفة قال سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (أوَّل مَاتُغْلَبُونَ عَلَيْه ِمِن الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمّ َبِقُلُوبِكُمْ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِه ِمَعْرُوفاً وَلَم ْيُنْكِرْ مُنْكَراً قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلَاه ُأَسْفَلَه ُوَأَسْفَلُهُ أَعْلَاهُ).
يسلط الإمام(عليه السلام) الضوء في هذا النص على أهمية الجهاد بأنواعه الثلاثة، ومدى اثرها في ثبات المؤمن على عقيدته، واذا خلا الانسان منها فانه يفرغ من أي محتوى روحي، بحيث تتقاذفه التيارات بشتى مسمياتها.
ففي اول كلامه قال(عليه السلام): (أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْه ِمِنَ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ) أي تتعرضون لضغط سلبي شديد يجعلكم تتركون الجهاد باليد بغياب آلياته لديكم.
وبعد ان يتمكن العدو من ذلك فإنه يطمع بزوال الجهاد باللسان، فيقول(عليه السلام): (ثُم بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان.
ثم تأتي المرتبة الثالثة وهي الجهاد بالقلب، فيقول(عليه السلام): (ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ) أي انه من لم يعط مجالا للإنكار القلبي بعد أن يصادر العدو قوتكم (الجهاد باليد) وبيانكم (الجهاد باللسان) فانكم بذلك تألفون أهل الضلال وتعيشون مرحلة انقلاب المفاهيم، ويعبر عن ذلك بقوله: (فَمَنْ لَم ْيَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً وَلَم ْيُنْكِرْ مُنْكَراً قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلَاه أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلُهُ أَعْلَاهُ).
ومن حكم الإمام القصيرة ذات المعاني الكبيرة قوله(عليه السلام): (أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ وَرَضِيَ بِالذُّل مَن كَشَف َعَنْ ضُرِّهِ وَهَانَتْ عَلَيْه ِنَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ).
ان قوام نفس الإنسان تقواها وقناعتها ومروءتها، ولكن من رغب بالطمع وتخلق به فقد استخف بنفسه واهانها وحقرها.
أما قوله(عليه السلام): (ورضي بالذل من كشف عن ضره) فيعني أن الشكاية للناس من البؤس والفقر والمرض وغيرها من اسباب الذلة لنفس الانسان، وهي الضعة التي يرضى بها نتيجة لهذه الشكاية، فلا جدوى من الشكوى الى الناس ما دامت لا ترفع ضرا ولا تجلب نفعا، وقوله عليه السلام: (وهانت عليه نفسه من امّر عليها لسانه) هانت عليه نفسه أي اذلها بأن امر عليها لسانه، أي تسليط اللسان على ما يؤذي النفس بالتكلم بما يثار من غير تدبر ومراجعة للعقل فكأن النفس صارت محكومة للسان وذلك من اسباب الهوان.
وقال(عليه السلام): (من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه) فالإمام ينوه في هذه الحكمة الى ان من اوليات بناء الشخصية السوية تقويم النفس بالخصال الحسنة، لذا يشير الإمام الى ان الذي يكثر من الاعجاب بنفسه فلا يبصر عيوبه الظاهرة للاخرين، فلا يعمد لاصلاحها فيسقط من اعين الناس ويتبرمون منه، اذ يجدون فيه التبجح مع ما به من النقص والعيوب.
وبهذا يكون المعجب بنفسه صريع احدى المهلكات الثلاث التي ورد ذكرهن في الحديث الشريف: ثلاث من المهلكات (شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه).
وروي عنه(عليه السلام) قوله: (الصدقة دواء منجح) اي ما يعطى في ذات الله للفقراء واثرها في سرعة إزالة ألم وجزع المتصدق عليه وقضاء حاجته من الفقراء، لذا فان اثر هذه الصدقة يرتد على المتصدق فتكون (دواءً مُنْجِحاً) اي وشيك الظفر بقضاء الحاجة وذلك بتفكيك ما تعقد من مرضه فيشفى وكذلك دفع ما اوشك ان يقع به من بلاء او قضاء حاجة.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله