في مدينتي صوَر..

4M4G3908

طالب شبر

في اواخر التسعينات وانا في مقتبل العمر، ذهبت ذات مرة الى المدينة القديمة في النجف الاشرف لأزور مرقد امير المؤمنين(عليه السلام)، ولكنني فوجئت في تلك المرة بمنظر غريب سبّب لي صدمة في ذلك الوقت.. اذ رأيت صاحب احد المحال التجارية قد وضع على واجهة محلّه صورة صغيرة لاحدى البضائع النسائية تحمل امرأة شبه عارية.
لم أستطع إخفاء عجبي، لانه من المعروف في ذلك الزمان ان مثل هذه الصور لا تُعرض في الشارع، وانما يتداولها المنحرفون سراً بينهم لأغراض لا اخلاقية.
واي شارع تعرض فيه؟ انه احد الشوارع الرئيسة في مدينة النجف الاشرف، المدينة التي أضحت مضرب الأمثال في كونها قدوة المجتمعات… علماً، ونقاءً، وفضيلة.

لم اكن اسكت على مثل هذه الحالة، وانما كنت اتحدث – بالتي هي احسن- مع اصحاب المحال التي تعرض مثل هذه الصور، من اجل ازالتها عن واجهات المحلات على اقل تقدير، وفي هذا الصدد وجدت منهم مَن يستجيب، ومنهم مَن لا يستجيب على الاطلاق.
ومنذ ذلك الحين، كنت اراقب انتشار هذه الظاهرة في مدينتي الفاضلة انتشار النار في الهشيم، حتى وصل الحال هذه الايام بان تقام عروضا واسعة لصور خلاعية -بمعنى الكلمة- تعرض على واجهات المحلات التجارية أو على القمصان النسائية، فضلا عن صور مشابهة على اجهزة رياضية والكترونية.. وعلى الالعاب الخاصة بالاطفال والمراهقين، وعلى الكثير من عبوات الادوية والمستلزمات الطبية.
ولا اريد ان اتحدث عن طبيعة الصور الموجودة على الاكسسوارات النسائية في المرحلة الاخيرة، فان فيها من عجيب المخازي ما لا يمكن وصفه.. ولا يجوز السكوت عليه.
وان تعجب فعجب تغاضي عموم الناس عن هذه الحالة، فترى الاب والام، العامل والموظف، الاستاذ وطالب العلم.. يمرون قرب هذه الصور دون نُصحٍ أو زجرٍ أو استنكار، وكأن عرضها قد اصبح امرا طبيعيا له ما يبرره، وكأن اصحاب المحال التجارية في عرضهم لهذه الصور لم يرتكبوا جريرة تستحق الاستنكار، وهذا السكوت الجماعي – في تقديري- يعد من اكبر العوامل المشجعة على رواج هذه الظاهرة في النجف الاشرف.
وعلى ذكر اسماء المدن أتساءل: إن كان حال ((النجف)) هو هذا، فما بالك بحال باقي محافظات العراق؟
ترى من وراء غزو هذه الظاهرة لمجتمعاتنا؟ ومن يقف وراء ترويجها بهذا الشكل الغريب، وما هي الحلول الناجعة التي توقف الزحف المتطور لانتشار هذه الصور الرذيلة بين ازقتنا؟

خبث في لباس البراءة:
لقد اثبت التيار الغربي بجميع وسائله انه لن يهدأ له بال أو يقر له قرار دون أن ينال من ثقافتنا الإسلامية وقيمنا الأخلاقية، وقد جنّد لهذه الهجمة الشرسة الوسائل المختلفة- المرئية والمقروءة والمسموعة- بكل ما تحمله من إمكانات لصالح تغريب الشعوب الإسلامية فكرا وثقافة، وفق أساليب خبيثة تلتحف بلباس البراءة.
وظاهرة انتشار هذه الصور البعيدة عن العفة والأخلاق تمثل احدى اخطر مصاديق هذه الاساليب الملتوية، بحجة ترويج البضائع الاستهلاكية للبيع، مع اننا بأقل تأمل يمكن ان نجد ان هناك طرقا نظيفة اخرى لا تقل كفاءة في ترويج هذه البضائع للمستهلكين.
ويمكن كشف القناع عن خبث هذه الظاهرة بالنظر الى جملة من البضائع المخصصة للاطفال مثلا، فمن البديهي ان الطفل لا يهمه وجود صورة امرأة خليعة على غلاف (حوض سباحة) مثلاً حتى يرغب باقتنائه، ولكن رغم ذلك تجد عددا كبيرا من هذه البضائع تحمل صورا لنساء شبه عاريات.
ثم ألقِ نظرة اخرى على العديد من الادوية – التي لا تخص التجميل- تجد عليها صورا لنساء مبتذلات دون مبرر منطقي، فان عدم وجود هذه الصور على اغلفة تلك الادوية لن يمنع المريض من شرائها واستعمالها للعلاج.
ثم ألق نظرة ثالثة على اغلفة العطور، تجد ان المستهلك لا يحتاج الى وجود صور نساء عاريات عليها من اجل ان يقتنع بأن رائحة العطر زاكية فيسارع لشرائها، والاولى بالمنتجين ان يضعوا صور أزهارٍ – مثلا- لاقناع المشتري بطيب رائحة العطر.. وعلى هذا المنوال تأمل بإنصاف باقي البضائع الاخرى.
وحتى البضائع الخاصة بالمستلزمات النسائية، فيمكن وضع صور هذه المستلزمات لوحدها على اغلفة البضائع ليقنعوا الناس بجمالها، أو على الاقل توضع على رسوم تجريدية لا تظهر التفاصيل المثيرة في جسد المرأة، ومن ثم لا حاجة لأن توضع صورا حقيقية لاجساد نساء مبتذلات.
مع العلم ان المجتمعات غير الملتزمة دينيا تؤمن بانه لا يجوز ترويج صورا خليعة أمام الاطفال والأحداث في الامكنة العامة او في البرامج والنشاطات العائلية، لذا تجدهم يراعون هذه الفقرة في مجتمعاتهم على صعيد البيت والمدرسة والشارع.
من كل هذا نعلم ان ظاهرة انتشار هذه الصور بشكل علني في مجتمعاتنا مسألة ليست بالبراءة التي يصورها التجّار وبعض المستهلكين، بل ان من وراء هذا الفعل المُشين غاية اعمق تستهدف البنية التحتية لاخلاقنا وآدابنا وديننا الحنيف.

الحكم الشرعي للموضوع:
وفي هذا الجال، نجد انه من المفيد جداً ان نستعرض استفتاءً رفعه جمع من المؤمنين لسماحة آية الله العظمى السيد السيستاني(دام ظله) ورد ضمن ثلاثة اسئلة كانت الاجابة عليها واحدة، وعلى النحو الآتي:
– سؤال: بعض اصحاب محلات بيع الملابس يعرضون صورا لنساء حقيقيات بالملابس الداخلية فقط على انها دعاية لهذه الملابس.
– سؤال: البعض يضع لافتة على محله فيها صوراً لنساء متبرجات جداً.
– سؤال: البعض من الرجال والنساء يلبسون ملابس عليها صور لنساء متبرجات من الممثلات والمغنيات وغيرهنّ.
الجواب: لا يجوز ذلك لكونه اشاعة للفاحشة وترويج للفساد.

اين يكمن الحل؟
اننا لو سايرنا جهل من يروّجون لهذه الظاهرة في بلادنا – باعتبارهم لايدركون خطورة ما يصنعون- فسوف يأتي اليوم الذي تكون فيه أفلام المجون وصور الدعارة ظواهر مألوفة يتداولها الناس دون وَجلٍ او خَجل.. على الصعيد العام والشخصي.
لذا فان الحل متعلق بذمة الجميع.. كلٌّ من موقعه وبحسب استطاعته، وليس لأحدٍ عذر في أن يقول: «هذا أمرٌ يقع خارج إطار تكليفي».
فالسكوت عن هذا الامر سيحوّل هذه المشكلة البشعة الى امر واقع يفرض وجوده على المجتمع، ثم يزداد سوء يوما بعد يوم، ولا ينفعنا عندئذ ان نندب حظنا ونبكي على اجيالنا وهم يعيشون هذا الواقع الاجتماعي في المستقبلِ القريب.
وقبل هذا وذاك، تقع المهمة الاكبر على المسؤولين في الحكومة – باعتبارهم القوة التشريعية والتنفيذية للقوانين- في أن يؤدوا تكليفهم الشرعي والقانوني لدرء هذا الانحراف، من خلال سن قوانين صارمة يكون لها واقع على الارض – وليس على رفوف اللوائح والتشريعات- تفرض على اجهزة حفظ النظام ان تُنزل العقاب الصارم على كل من تُسوّل له نفسه انتهاك حرمة هذه البقعة المباركة، او غيرها من بقاع هذا البلد، لتعود شوارعنا.. ومن ثم.. عيون اجيالنا، سليمة من هذا الوباء الخطير.

مقالات ذات صله