شاكر القزويني
أمر جلل يحدث، وحديث بين الرجال يخرج من تهامس الى تجاهر يحث بعضه بعضا، لكن إذعان الركب الذي قضى وطره من الحج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان فيصلا يقود للاستسلام والخضوع لمشيئة الله تعالى.
هؤلاء الصحب تعودوا ان يتلقوا من رسول الله كل يوم رحمة يطيّب بها خواطرهم فيفتح ما أسرته نفوسهم من وساوس وهموم ومعاناة، فجبريل الحبيب (عليه السلام) يحف به لينبئه كلمات الله التامّات لكي يتم نعمته عليهم، فسارت قوافل الحجيج كما اشار الرحمن وحطت كما أنبئوا.
هذا هو غدير خم، اصطفت حوله الخيام، وفسطاط رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي اتخذ مركزها قلبا لم يكن سوى ثوب علق على شجيرات لنيل سكينة من حر هجير قائظ، برغم هذا فهو مملوء بالحياة الكريمة.. تنبض فيه روح الإسلام وهديه للعالمين.
غدير خم شاهد على البيعة
على رابية يشرف على عشرات الآلاف من الحضور كان يرفع يدا بيضاء بعد حديث طويل أنبأهم فيه ان هذه حجة الوداع، فهو في الغد مفارقهم، وفي عامهم المقبل سيكون هناك مولى آخر لهم، فمن غير المعقول ولا المنصف لقائد هو خير من وطئت له قدم أن يترك الرعية بلا راع يأخذ بيدها ليعبر بها الى شواطئ الأمان، فقال(صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فعلي مولاه).
كلمة محددة واضحة وعبارة لا تقبل التأويل، ولم يقف عند هذا الحد، بل تعدى في جملة لاحقة ليقطع الشك بالتسليم، فقال: (اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره).
هذا دعاء نبي كريم تتدفق من جنبيه الرحمة، لكنه هنا أراد أن يقطع دابر الكيد والمكر المحدق بالرسالة.
فقدم الموالاة داعيا الله تعالى ان يوالي من يواليه وإلا فان من لا يبايع ولا يوالي فان الله عدوه ومن يكن الله عدوه فقد وقع به الخسران المبين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد علم ما سيصيب وصيه من خذلان أولئك الذين سيطمحون الى السلطة وان كانوا من الاصحاب المقربين ممن سينقلب على عقبيه، كما أنبأ تعالى في كتابه الكريم، فكانت تتمة الدعاء الوعيد بخذلان من الله لهم وتلك من عواقب السوء والتردي المفجع والإفلاس المخزي يوم الدين.
مجدّل الطواغيت ومحنة النفاق والثأر
ما يقف في متدارك الظن أن رجلا قتل زعماء القوم المشركين وكل قرم فيهم قد فجر فكان حصاد سيفه الذي لا سيف كمثله يجني ما يربو على نصف غلة الحصاد من غزوات الفتح المؤزر للدين الجديد، فمن غير المستبعد الّا يكون محبوبا عند أهل هؤلاء وان أظهروا اسلامهم وولاءهم لهذا الدين.
بل ان الكثير من المنافقين كانوا من هؤلاء الذين اظهروا ما لا يبطنون خيفة من بأس هذا السيف اذا ما تلاقوا معه يوم النزال في سوح الوغى، والجبن مدعاة لهؤلاء الغدرة لينكثوا ويكيدوا، فكانت الولاية صاحبة حظ الاوفر لمرمى سهام هؤلاء المنقلبين والمنافقين والطامحين الى ملك عضوض يرجع بالأمة الى جاهليتها الاولى التي هدّها الإسلام وقهر طواغيتها.
اليوم انت مولى كل مؤمن ومؤمنة
مدّ الأصحاب والشهود يدهم: بخ بخ لك يا ابن عم رسول الله أصبحت مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وكان أول المبايعين والمهنئين هو أول من جاء بالسقيفة ورصّ بنيانها وسن سنتها الناقضة لبيعة قد شهدها وأقرّ بها ونبي الأمة بعد لم يُسجَّ في مثواه الأخير، فكانوا أول المنقلبين والناكثين والمارقين.
فتنة ارادت للولاية الانكفاء، فألقوا إفكهم لتغرق في غياهب العصبية القبلية والدعوة الجاهلية وسلطان الحكم وغرور الدنيا، لكن الله يأبى إلا ان يتم نوره ولو كره الظالمون، فنمت وكبرت حتى أثمرت في نفوس المؤمنين وارثي الأرض، فالأرض لا يرثها سوى عباد الله الصالحين.
وجوه ميتة في مستنقع آسن
اذا سبخت الأرض فما من معنى لسقيها مرات ومرات، والملح الأبيض يرسم ملامح القحط والعقم والجوع، يطفو على سطحها كوجوه ميتة حملها مستنقع آسن تفوح منه رائحة الموت، تلك هي حال أمة نكثت وعودها فأبدلت بالخير العميم شراً مستشرياً، فكان ما كان لها من قلب ظهر المجن على بيعة الغدير وقتل أمير تلك الولاية الالهية الوصي المؤتمن على رسالة السماء في بيت الله، وقتل ابني بنت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين شر قتلة وهتك حرمة آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة مرات وأفجعها كانت واقعة الطف في صحراء الكرب العظيم والبلاء المستمكن في روح المسلمين، والوقائع تترى واحدة تسوّد وجه الأخرى، بما جيء فيها وما فدح منها خطبا ورزية وسوء مآل.
وما زال لليوم نكرانهم لهذا الحق مقيم، وحقدهم موتور يتناسل الفجور والغي والانحطاط الانساني حتى تشوهت صورهم وغابت ملامح الإنسان فيهم بعد ان ضاجعهم الشيطان في عقولهم وأنفسهم فحبلت ارواحهم امما من الشياطين الآدميين، يكرهون النور والسلام، ولا تسكن نفوسهم إلا على أنين الصالحين، ولا يرتوون إلا بالخوض في دماء المسلمين، وأشد ما يبهجهم هو حمل رؤوس المخلصين، لتكمل طريق التيه من كربلاء الى الشام، فالسبي عندهم لا ينتهي ولا يقف عند حدود.
فصراخ وعويل أطفال الحسين عليه السلام نفخ في رؤوسهم نيران جهنم، فظلوا يلهثون وراء ما يطفئ تلك النيران، وتلك الحرائق لا يطفئها إلا سعير سقر.
عيد الله الأكبر
أليست حكومة النبي الأمين(صلى الله عليه وآله) تكفي لكي تكون دولة للإسلام، تمتد لمغارب الأرض ومشارقها؟
قالها أحد الشاهدين على بيعة غدير خم لصاحبه بعد ان فرغوا من مبايعة أميرهم المرتقب(عليه السلام)، فأجابه صاحبه: أليس الله أعلم أين يضع سره وخلافته، ولقد رأيت بأم عيني ذلك الأعرابي الذي اعترض على هذه البيعة فدخل على رسول الله مستنكرا تلك التولية للعهد قائلا للنبي الأمين أهي منك أم من الله ؟ وكان رد رسول الرحمة صلى الله عليه وآله قاطعا : انها من عند الله. فزاد هذا من غليان حقده ومرضه وحسده، وما ان خرج حتى دعا على نفسه ان كانت من الله فلينزل علي من السماء… ولأن العزيز الجبار أراد ان يقطع الطريق أمام المتشككين وأراد أن يبين ان أمر الله مفعول، أجاب دعوته بأن أسقط عليه من السماء حجرا نخره من رأسه حتى خرج من دبره، نكاية بالمتخرصين.
ليست هذه نهاية المطاف فسفينة النجاة تحمل راية الولاية الى أن ترد الحوض، ترسو على شواطئ الرحمة والسكينة بعد ان حملتها امواج الصراط المستقيم بكل رفق وأمان، أمة ناجية تشبثت بالحب المقدس والولاء المستمكن من الروح والعقل.
فأصبحت مشاريع فداء وبساتين حب ومدن ولاء نقي الى ان يبسط صاحب الأمر والزمان دولته العادلة وحكمه الصالح في كل بقاع الأرض.
نشرت في الولاية العدد 85