مرقد الامام وسبب اختيار بقعته

www.imamali

د. صلاح الفرطوسي

لم يحظ قبر من قبور المسلمين بعامة، وقبور اهل البيت عليهم السلام بخاصة من البحث والتقصي بمثل ما حظي به قبر امير المؤمنين عليه السلام قديما وحديثا وذلك بسبب الشبهات التي أُثيرت حول موضعه في كتابات بعض علماء اصحاب الحديث، وانصار اعدائه، على الرغم من بحوث علماء اهل البيت الجادة في هذا الموضوع قديما وحديثا.

وأزعم ان الذي يريد معرفة ذلك لا بد ان يكون على بينة من افاق المكان الجغرافية والتاريخية والسياسية وعلى بينة من سيرة الامام عليه السلام في العراق خاصة وموقف اعدائه منه، ولا بد ان ينزع من نفسه التراكمات الطائفية التي اثرت على كثير من القدماء والمحدثين، فشاركت في تشويه الصورة حتى بات من الصعب معرفة ملامحها عند من اثرت فيه تلك المؤثرات.
كان الامام عليه السلام يجد في ذلك النجف الذي تحدثنا عنه، وهو لا يبعد عن الكوفة اكثر من فرسخين، مكانا للاسترواح والتأمل والعبادة يقصده حينما يشعر بالضيق او التعب او اليأس من صلاح الامة التي ارادها مثالية فاضلة يحكمها العدل وتسودها اخوة الدين او الخلق، ولكنها تمردت عليه، فوجدت طبقتها المتنفذة في قوانين المساواة التي اعلن عنها منذ اليوم الذي بويع فيه، وطبقها تطبيقا صارما سدا منيعا امام مصالحها فحاربته حربا شعواء في السر والعلن، وتآمرت عليه، وتبعتها امة الجهل الغوغاء التي لا تعرف مكمن مصلحتها فغلبت ولاءها القبلي او مصالحها الضيقة على الولاء لدين او امام وحينما بلغت روحه الحلقوم وشعر باليأس امسى واصبح يدعو الله سبحانه ان يخلصه منها، ويلحقه بأخيه المصطفى صلوات الله عليه وسلامه عليهما، وقد ذكر الشيخ محمد حسين حرز الدين في كتابه تاريخ النجف 1-69 -73 روايات كثيرة تؤيد خروجه عليه السلام الى ذلك النجف، وسبقه ابن عساكر في تاريخه 1/213 الى الاشارة الى مثل ذلك، ولعل من تأمل المنطقة في اوليات النصف الثاني من القرن العشرين استطاع تقدير قيمة استرواح امير المؤمنين عليه السلام او غيره في تلك البقعة التي تنقلك من عالم إلى اخر مليء بالصفاء والهدوء، وخاصة في ايام الربيع او في ليالي الصيف المقمرة.
ومن الصعب تحديد الوقت الذي كان يختاره عليه السلام لهذا الاسترواح أهو في ليل او نهار، ويغلب على الظن انه كان في ليل مقمر مرات، وفي نهار ربيعي مرات اخرى ولا شك انه كان يختار في احيان كثيرة نفرا من خاصته امنوا برسالته وبمكنون علمه لهذه الخلوة، وتذكر المصادر الشيعية اخبارا عن هذا الاسترواح، منها خبر لقائه بالرجل اليماني الذي اصحب جثمان ابيه من اليمن كي يدفنه في تلك البقعة بوصية منه، لأنه سيدفن فيها رجل (يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر، فقال له عليه السلام: اتعرف ذلك الرجل؟ قال لا، قال: انا والله ذلك الرجل) وقد نقل الخبر المذكور الشيخ محمد ابن الحاج عبود الكوفي في كتابه نزهة الغري المنشور في موسوعة النجف الاشرف 2/157 عن المجلسي في كتابه ارشاد القلوب رواية عن ابن عباس وورد خبر اللقاء بالرجل اليماني في مجموعة من البحوث نشرت في موسوعة النجف الاشرف منها بحث في 3/403 بعنوان وادي السلام لمحسن عبد الصاحب المظفر.
وزعم ان الارض الغامرة ما بين نهر سابور الذي يسمى (كري سعدة) -بكسر السين- الى النجف ثم الى الحيرة وقد اشتراها الامام بأربعين الف درهم فلما سئل عن سبب شرائها وهي غامرة لا تصلح لسكن او زراعة، قال عليه السلام: (سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول كوفان كوفان، يرد اولها على اخرها، يحشر من ظهرها سبعون الفا يدخلون الجنة بغير حساب فاشتهيت ان يحشروا في ملكي) كما جاء في كتاب فرحة الغري 2/41- والاحالة الى هذا الكتاب ستكون على طبعته في موسوعة النجف الاشرف – وعلق ابن طاووس على الخبر بقوله: (هذا الحديث فيه إيناس بما نحن بصدده، وذلك ذكره ظهر الكوفة اشار إلى ما خرج عن الخندق، وهي عمارة اهلة الى اليوم، وانما اشترى امير المؤمنين عليه السلام ما خرج عن العمارة حيث ذكر.. فدل على انه اشترى ما خرج عن الكوفة الممصرة، فدفنه بملكه أولى، وهو اشارة الى دفن الناس عنده، وكيف يدفن بالجامع ولا يجوز، او بالقصر وهو عمارة الملوك، ولم يكن داخلا في الشراء لأنه معمور من قبل) ولك ان تنظر تخريج الخبر في الحاشية.
ومما يقرب ذلك قول الامام الصادق(عليه السلام) الذي رواه ابن عساكر في تاريخه 1/213 عن محمد بن مسلم: ان امير المؤمنين عليا(عليه السلام) كان: (يأتي النجف ويقول: وادي السلام، ومجمع أرواح المؤمنين، ونعم المضجع للمؤمن هذا المكان، وكان يقول: اللهم اجعل قبري به) ويتناسب ما ورد ايضا ما ذكره ابن عساكر في تاريخه 41/213 عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)-المؤمنون/50- قال: (الربوة: النجف، والقرار: المسجد، والمعين: الفرات) ويوازيه ما رواه ابن الاعثم عن الامام في حق مسجد الكوفة ومن مر او صلى به من الانبياء عليهم السلام في فتوحه 1/221 ويقرب الى الظن انه يوم شعر عليه السلام بدنو اجله الذي وعد به اختار موضعا معلوما تحيط به بعض التلال في تلك الهضبة المطلة على البحيرة بامتداد النظر، وهو بقعة تبتعد عن كل المواضع التي يمكن ان يمر بها احد من أولئك النفر الذين اتخذوا من الكوفة او الحيرة او غيرهما سكنا او ممراً او تجارة ولا يبتعد عن شفير البحيرة كثيرا، ولا يقترب من الطرقات المعروفة المؤدية الى الكوفة او الى الحيرة، وليس في طريقهما، أو طريق جارتهما، او طريق القرى والمزارع التي انتشرت على جانبي الفرات لأنه كان على بينة مما يمكن ان يفعله اعداؤه بجسده الطاهر اذا تمكنوا منه، بل ان تمكنهم منه واقع لا محالة ان هم عرفوا موضعه فالخوارج في الكوفة ونواحيها، بل ان مساكن غالبيتهم من اهلها، وبنو امية على الابواب بانتظار موته او استشهاده، ولم تخل الكوفة من جواسيسهم في تلك الفترة ومن كلمهم سيف الإمام في حرب الجمل ينتظرون الفرصة للانتقام ولو من جسده الطاهر، لقد وجد عليه السلام في ذلك النجف الذي طالما استروح به، وهو لا يبعد عن الكوفة كثيرا مكانا مناسبا لمثواه الاخير، لا تلتفت اليه اعين الرقباء، ولا يرصده أحد من اعدائه ولا اشك في ان من شكك بموضع قبره عليه السلام بسبب بعض الروايات التي ظهرت بسوء نية او بحسن نية لو تأمل علاقة المكان بالكوفة بعين عصر الامام او العصور التي تلته لما تردد في اهمالها.
ومما يوقف اليقين ويعززه انها لم تكن المرة الاولى التي يمتحن فيها الامام عليه السلام بمثل هذا الامتحان فقد سبق له ان اختار قبرا للزهراء عليها السلام يوم طلبت منه بإصرار في سويعاتها الاخيرة تعمية قبرها، وقد استطاع تعميته في بقعة غلب على ظني انها بجوار قبر امه فاطمة بنت اسد رضوان الله عليها، وقبر ولده الحسن بن علي عليه السلام في البقيع وقد فصلت رؤيتي في أثناء الحديث عن موضع قبرها، وهكذا قدر الله ان يكون قبر المرتضى ثاني قبر غيب في الاسلام بعد قبر سيدة النساء عليها السلام، ولما يكتمل مرور ثلاثة عقود على رحيل المصطفى صلى الله عليه واله كما قدر للبقعة التي ثوى فيها ان تكون رابع بقاع المسلمين المقدسة.

نشرت في الولاية العدد 85

مقالات ذات صله