الثروة الأدبية في النجف الأشرف

الصحافة-النجفية

ظهرت بواكير الصحافة في النجف الاشرف منذ سنة 1910م، وبالرغم من قلة الموارد وحداثة التجربة آنذاك، الا انها حققت قفزات نوعية نافست التجارب الصحفية على المستوى الإقليمي، إذ واكبت الأحداث العالمية أدبا وسياسة وثقافة، وبلورت الهموم والآمال التي يحملها المفكرون تجاه الأمة.
وفي هذا الباب تقدم لكم (الولاية) سلسلة مختارة من المقالات المنشورة في مجلات النجف القديمة إحياءً لهذا الإرث الإعلامي الخالد، ووقوفاً على معالم من تفوّقه الذي عجز كثيرون في هذا الزمان عن مجاراته.

في النجف -علاوة على الثروة العلمية الغزيرة- ثروة ادبية قيمة هي ينبوع غزير لا ساحل له ولا قرار، وعين للآداب فوارة، يمكن ان يرتوي منها ابناء الضاد، وان يخلقوا منها للعراق كيانا ادبيا جديدا، يتناسب والعصر الحاضر ويتفق والطراز الحديث.
وكل هذه الثروة والخزانة الغالية لا تحتاج الا الى شيء قليل من الاعتناء والصقل والجلاء، لتبرز الى القراء، والمتشوقين الى هذه الاثار الثمينة، ولتخلق لنا جيلا متأدبا وطبقة من الادباء كبرى، يرفعون رأس اللغة العربية في هذه الربوع ويجعلون لأبنائها مكانة سامية ومقاما محمودا، تحسدها عليه الامم، وتغبطها الشعوب..
لمدينة النجف -في المناحي الادبية- خصائص وميزات قلما توجد في مدينة اخرى، فقد عجنت بالآداب واختمرت به الى درجة بعيدة جدا.
فأنى سرت واين حللت رأيت وسمعت ما يطربك ويعجبك من نثر رائق وشعر فائق ونكات مستملحة ونقد نزيه، علاوة على الذكاء الفطري المحس في سائر الطبقات في النجف.
وهب انك استطعت «وهيهات» ان تحصي في مدة طويلة اسماء ادبائها وتعرف من مؤلفاتهم شيئا فانك لا محالة عاجز عن الوقوف على نهاية اثارهم المبعثرة هنا وهناك، ويمكننا في هذا المقام ان نحصر الثروة الادبية في النجف بنطاق ضيق ونلخصه في مواضيع ثلاث:
1. ادب الجدران والابواب:
لا يكاد السائح او الزائر ان يدخل الى هذه المدينة المقدسة ويقف على جدار جامع او باب مدرسة او مقبرة او مشهد او معبد، الا ويجد عليه البيت او البيتين او القطعة النفيسة الرائقة، مما يتناسب والمقام، وينطبق ومقتضى الحال فهذا باب جامع كتبت عليه ابيات جميلة، ذكر فيها عبارات التقوى والعبادة واسم الباني له وتاريخ بنائه، وهذه دكة رسمت عليها مقطوعة غالية يرثي بها صاحب القبر، مع مقدار من شرح مزاياه واثاره وتاريخ وفاته، وتلك زاوية اثرية مرت عليها الاجيال والقرون بما فيها من ادباء يجتمعون بفنائها فاصبحت مجموعة نفيسة فيها ما فيها من ابكار أفكاره النجف وفطاحلها.
وحبذا لو تصدى بعض الباحثين من ادبائنا لاصدار مجموعة تضم تلك الآثار الدارسة ليقف منها على ادب وتاريخ ومقدرة لا يستهان بها.
2. ادب المجاميع الناطقة:
ظاهرة من ظواهر اندية النجف الحافلة، ومزية من مزايا عمار محافلها اختصت بها دون غيرها، وهي انك لا تكاد تجتمع بشيخ او كهل من رواد تلك المحافل، ورواد هاتيك المناهل، الا وسمعته يروي لك عن شعرها وشعائرها وطرائف ادبائها، ونكاتهم ومطارحاتهم ومساجلاتهم، مما مرت عليه العصور التي قضاها في اوساط اولئك الكتاب والشعراء، واذا اخذت نصيبك من تصفح صفحات ذاكرته، وتبينت خلال سطور حافظته وجدت نفسك -بلا ريب- وبين يديك مجموعة «ناطقة» تزيدك مادة ادبية كلما زدتها تصفحا واستطلاعا.
3. ادب المجاميع المخطوطة:
اجل، وفي زوايا النجف ومكتباتها العامة والخاصة وحجراتها القديمة، وخزائنها وصناديقها من المخطوطات الاثرية القديمة والحديثة، والمجاميع الجامعة، والدواوين الشعرية والمقامات والرسائل النثرية البليغة والمعارضات والمساجلات وتراجم مختلف الادباء في مختلف الادوار والعصور ما يفوت حد الاحصاء.
فلو فتش احدنا القصائد وتتبع المنظومات الشهيرة -امثال البردة والهمزية والدريدية والتترية والعلويات والهاشميات وبانت سعاد وميمية الفرزدق وغير ذلك فلا يجد لكل منها الا تخميسا او تخميسين وتشطيرا او تشطيرين ذلك في غير النجف.
ولو قلبنا وجوه هذه المجاميع التي اشرنا اليها -في زوايا النجف- لوجدنا لكل واحدة من التخميس والتثمين والتشطير عددا كبيرا من احسن ما جادت به قرائح الادباء النجفيين الوقادة.
ولقد حدثني احد الاصدقاء وقال بانه يعرف قصيدة واحدة اجتمع عليها مقدار غير قليل من الشعراء فغير كل منهم قافيتها ورويها مع حفظ الوزن والتراكيب ثم ادعاها كل منهم انها له، وانها من بنات افكاره الخاصة، ونظم دعواه ارجوزة حاوية على مستنداته، وكل ما يبرر دعواه.
وقد عرض هؤلاء دعاويهم «اراجيزهم» على قاض نجفي اديب كان في زمانهم فحكم لأحدهم بها واصدر قرارا منظوما بذلك، يستند فيه على ادلة مقنعة، ويرد على شهادات الشهود، كل ذلك بشعر نفيس ونظم متين.
وقد جاءت هذه المحاكمة من انفس الكتب الادبية التي تدل على براعة ومقدرة اولئك الادباء الفطاحل.
قدمت حكومة الاندلس للمؤرخ ابن خلدون جواز سفر بصورة ارجوزة فقامت قيامة المؤرخين في الثناء على الادب الاندلسي، ولو قارنا بين هذا الجواز الاندلسي وبين هذه الدعوى الكبيرة في النجف لألفينا بونا بين الادبين شاسعا، وفرقا بين الحالين واسعا، هذا جواز سفر منظوم لا اكثر ولا اقل، وهذه دعوى بها مقدار كبير من المدعين، ولكل مدع شاهدان ويتبعها قرار من المحكمة، كلها نظم في نظم، ولا ترى مع ذلك كله مكبرا ولا مقدرا.
فهل للحكومة ان تهتم بالنجف وتحتفظ بأدبائها لتنتفع البلاد بهم، ولتستغني عما تبذل على سبيله الاموال الكثيرة.
هذه كلمتنا الآن، وسنعود لهذا البحث في الاعداد القادمة..

نشرت في الولاية العدد 85

مقالات ذات صله