د. علي عبد المطلب المدني
لم تكن وصايا الامام علي بن ابي طالب (عليه الصلاة والسلام) عاطفية وعفوية في بناء اسس الدولة المتحضرة الهادفة الى تربية الاجيال والسير بهم نحو عالم التحضر والتطور وفق المنهج القرآني الرصين العامل على بناء الانسان والمحافظة على انسانيته وكرامته والتكفل برزقه رحمةً من خالقه.
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز : (( ولقد كرًّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضًّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً ))
وعلى النهج القرآني المبارك اوصى الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله وسلم) باهمية اظهار الاسلام وحقيقته العاملة على مراعاة الفقراء والمحتاجين وبذل الجهود في بناء القوانين العاملة على الحفاظ على تلك الشرائح المعدمة باعتبار الانسانية واحدة لا تفرقها الاجساد المختلفة والعمل على تقديم احتياجاتها والمحافظة على كرامتها الانسانية وابعادهم عن الانتقاص من الاخرين والحاجة الى الاخرين مما يجعلهم طبقه منزوعة الكرامة ، ويقول النبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) بهذا الصدد « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى لهُ سائر الجسد بالسهر والحمى ] .
بناء على القرآن والسنة الشريفة الاصيلة التي تغذى منها امير المؤمنين ونشأ في حجرها المبارك كان اهتمامه بالمجتمع واحواله وضرورة توحيد الجهود وتسخيرها لخدمة المحتاجين والفقراء من ابناء الامة الانسانية جمعاء والعمل على وضع القرارات القادرة الى حل مشاكلهم والاهتمام بهم ويكون بذلك تطبيقاً للكتاب المقدس وتعاليم الرسالة الاسلامية السمحاء وهو أمر ينعكس على الجوانب الروحية للفقراء وصيانة مشاعرهم الانسانية ويكون بمثابة عودة الامة الى قيمها واخلاقها وعطائها الروحي والأخلاقي التي ارادها الاسلام للبشرية جمعاء بدون تمييز ديني او مذهبي وبالاعتماد على الرحمة والاخلاق ويكون ذلك بمثابة الحصن الواقي للمحتاجين والبؤساء للتصدي الى جميع الافكار الدخيلة التي تحاول الانتشار في افكار البسطاء والمحتاجين ونشر افكارها الضالة وتهديد المجتمعات البشرية بالاندثار والمخاطر ، وقول الامام امير المؤمنين(عليه السلام) بهذا الصدد ما نصه «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم ، فأنهم صنفان : إما اخ لك في الدين ، او نظير لك في الخلق…»
واوجد من خلال حديثه المقدس سياسة فكرية اجتماعية ثابتة تعتمد الوحدة الانسانية ومن ثم الوحدة الدينية القائمة على اساس الحوار والرحمة بين المجتمعات الانسانية دون استثناء ويعكس بذلك عمق الرسالة المحمدية وتعاليمها الرصينة الداعية الى الوحدة المجتمعية والابتعاد عن الفرقة على اساس الاديان ويعكس قوله تعالى في كتابه المقدس « لا اكراه في الدين…» ، وقد كان فكر الامام امير المؤمنين(عليه الصلاة والسلام) اثره في اقلام المفكرين من الاديان الاخرى الاسلامية والاجنبية على حدٍ واحد معربين عن العظمة والقدرة الانسانية التي تميزت بها شخصيته الشريفة .
واوجدت سياسة «المساواة» في فكر الامام امير المؤمنين(عليه الصلاة والسلام) بين الشرائح المجتمعية المختلفة ارضية سليمة لبناء الفكر الاجتماعي العادل بين الامم المختلفة والتي وجدت فيها الدستور الاجتماعي الرصين في تحقيق العدالة القادرة على التطور والتحضر ومن خلاله يمكن بلوغ النجاح وتحقيق الصواب للمجتمعات الانسانية بتحقيق مبدأ المساواة بين ابناء المجتمعات المتنوعة دون تمييز بين الذكر والانثى ويمكن ان تكون الاخلاق الفاضلة والتربية الصحيحة هي المعيار في التعامل بين الجميع ، اذ كان القران الكريم اشار الى تلك المساواة وعدم التمييز بين الناس ، وقال تعالى « يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم ]
ومن القران ونهجه اوجد سيدنا ومولانا ابو الحسن نهج المساواة الذي ظل يحاكي الاجيال المختلفة والاقلام المنصفة طوال التاريخ وهنا لابد من ذكر كتاب الاديب المسيحي الرصين الذي حمل عنوان العدالة جورج جرداق « الامام علي صوت العدالة الانسانية ] الذي ابرز نماذج حية لتلك المساواة وتحقيق العدالة بين المجتمع وفئاته المتنوعة ونبذ التفريق والقرابة الاسرية التي تأخذ على عاتقها تمزيق الامم وتدميرها وخلق الطبقية المميتة المتمثلة في الجوانب العنصرية والمالية ويخاطب الامام اصحابه بضرورة المساواة والعدالة في الامور المختلفة ومنها عملية الانفاق المالي في جميع الظروف الحرجة والطبيعية لتحقيق المساواة ويقول عليه السلام ما نصه [ اتأمرونني أن اطلب النصر بالجور ؟ لو كان المالُ لي لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله ….».
وفي جانب البناء الاجتماعي العامل على بناء قاعدة جماهيرية مؤهلة ثقافياً قادرة على الثبات بوجه المخالفين للدين وتعاليمه القويمة الرصينة التي اوجدها القران الكريم والسنة النبوية الشريفة اكد في احاديثه المباركة على اهمية الالتزام في الحضور الفاعل في المجالس الدينية ومجالس العلم واهله للنهل منها وترصيناً للنفس والاخلاق بالاعتماد على افكار اصحاب اهل السوابق الحسنة ومناقشة العلماء والمفكرين والعمل على مرافقة اهل النجدة والشجاعة الى جانب المطالعة لتاريخ الامم السابقة للأخذ منا العبر والحكم ومعرفة افكارهم وخاصة التي بلغت في تاريخها التطور والتحضر ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا الجانب : « واكثر مدارسة العلماء ، ومناقشة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك واقامة ما اقول ما ستقام به الناس قبلك « ويوكد عليه الصلاة والسلام في جانبا اخر على تلك الاهمية والضرورة ] ثم الصق بذوي المرؤات والاحسان ، أهل البيوتات الصالحة ، والسوابق الحسنة ثم اهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة ، فانهم جماع من الكرم وشعب من العرف …»
نماذج من تلك المواقف المشرفة في بناء الانسان والتي يشهد لها الجميع ولعل كل منصف وكاتب وقارئ معتدل يجد من الواضح للعيان الفسحة الكبيرة والمهمة التي افردها الامام امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لتربية المجتمع الانساني عامة وخاصة الضمير البشري على اساس الاخوة الانسانية تاركاً العقائد والاديان كحرية متبعة من قبل الغير ، اذ وضح اساساتها وصانها من الافتراءات التي دخلت على الدين الاسلامي وبين مخاطرها ، وما يعيش المجتمع الانساني في ايامنا هذه من ازمات وشقاقات واختلافات وضعية من قبل المندسين والمتآمرين على البشرية والامم جمعاء لتحقيق مصالح ذاتية ضيقة يدفع ثمنها المجتمع الانساني في كل مكان وما احوج تلك المجتمعات الى اعادة منصفة ودقيقة الى طروحات الامام امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام للوصول الى مجتمعات آمنة ومتحضرة اساسها المساواة والمحبة والعدل والاخاء وصولاً الى الطهارة النفسية وبناء مجتمع يتسم بالسلوكية المستقيمة وبلوغه اعلى المراحل الاخلاقية والحضارية ويتم من خلال ذلك التصدي المباشر والميداني الى اصحاب الفتن والنفاق المحسوبين على الاديان والمذاهب ظلماً وعدواناً .
نشرت في الولاية العدد 86