أطباء عرب..ابن جزلة البغدادي

Imam-Gazali-El-Gazali

حمود حسين

يحفل تاريخ المسلمين بالمآثر الفكرية والعلمية لما قدموه من نتاجات عظيمة في مجالات العلوم المختلفة وفي جانب الطب على وجه الخصوص، وكان القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي – قد تميز ببروز علماء عرب ومسلمين عظام ومتمكنين في مجال علم الطب والحكمة فقد قاموا بوضع اللبنة المناسبة لتوسيع القاعدة الأساسية لهذا العلم وتطويره، والانطلاق لتحقيق طفرة نوعية فيه، وكانت مدينة بغداد الركيزة الأساسية التي تمحورت عليها الكفاءات العلمية في سائر بلدان المسلمين وحضارتهم اللاحقة…

حضارة مشرقة
كان العلماء والرجال الذين يرومون الاستزادة من المعرفة من أطراف الدنيا، من حدود الصين شرقا وشمال إفريقية والأندلس غربا يشدون الرحال إلى بغداد، وقد يبقون فيها أو يعودون من حيث أتوا محملين بأفكار وفنون المعرفة ويقومون بتطويرها بمهاراتهم وبما كانوا يعلمون… وكان دين الإسلام هو المحرك الأكبر لهذه الحضارة التي كانت فاتحة الحضارة الحاضرة.
ومن هؤلاء العالم والطبيب الشهير من علماء وأطباء عصره، الذين كان لهم فضلهم وأثرهم الباقي.. المحسن أبو علي يحيى بن عيسى بن جِزلة ولقبه البغدادي.

اسمه ولقبه ونشأته:
المحسن أبو علي يحيى بن عيسى بن جِزلة ولقبه البغدادي عالم عربي مسلم وطبيب من بغداد كان مسيحياً، لكنه اعتنق الإسلام سنة 466هـ / 1074م، متأثراً بأستاذه أبي علي بن الوليد المعتزلي.
كانت دراسته في مجال الطب على سعيد بن هبة الله طبيب الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله.
درس ابن جزلة كتب أبقراط وديسقوريدوس وجالينوس كما درس مؤلفات ابن ربن وحنين ابن إسحاق والرازي والمجوسي وغيرهم، فتكون لديه مخزون طبي صيدلاني كبير صقله بالعمل الميداني واختبار المواد المستعملة في الطب والصيدلة، وكتابه «منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان» دليل على ذلك، وقد اشتهر هذا المؤلف بين المختصين حتى صار صاحبه يعرف بصاحب المنهاج..
كان ابن جزلة يطبب أهل بلده ومعارفه بغير أجر، ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بغير عوض، ويتفقد الفقراء ويحسن إليهم.
عاش في القرن الحادي عشر الميلادي ولم تحدد الموسوعات أو كتب تاريخ العلوم عام ميلاد له، ومن المعروف أنه ولد في بغداد ونشأ بها وتعلم علوم اللغة والمنطق والكلام ودرس الطب على يد الطبيب العشاب وصار طبيبا من أطباء الخليفة العباسي المقتدر بالله.
أثناء دراسته للطب أعانه قاضي بغداد الحنفي على العيش فعينه نساخا بدار الحكمة، وكان ابن جزلة يسكن بمدينة الكرخ في بغداد وعندما صار طبيبا لم يكن يأخذ على اتعابه اجراً لانه كان يرى أن الطب مهنة إنسانية لمساعدة الفقراء.

إسهاماته العلمية:
كان ابن جزلة إمام الطب في عصره ومن المشهورين انذاك ولقد تجلت إسهاماته الطبية في وضع جداول تشتمل على شروح وافية عن كل مرض، كما استعرض أنواع الأوبئة والأمراض وأوقات ظهورها، ثم البلدان التي تنتشر فيها، وطرق تشخيصها، وكيفية علاجها.
ويذكر انه اتبع طريقة منتظمة في متابعة أعضاء جسم الإنسان وأمراضها، ووضع ذلك في جداول تسهل على المثقف العادي في عصره استعمالها في العلاج. ربط في هذه الجداول بين حالة المريض النفسية والاجتماعية ونوع المرض الذي قد يصيبه, فكانت تلك الجداول من أوائل الجداول التي ربطت بين علم الطب والاجتماع وعلم النفس. كان ابن جزلة من الصيادلة المشهورين في بغداد وقد أسهم في هذا الميدان من خلال وصف العقاقير والأعشاب والأدوية، وكل ما يستعمله الإنسان في التطبب من لحوم ونباتات ومستحضرات كيمياوية.
من أهم اسهاماته التي نشأت من تخصصه في الأمراض الجلدية وبخاصة علاج أمراض الرأس الجلدية مثل الثعلبة والقرع وجميع قروح أمراض الرأس. كما أن له اهتماماً خاصاً بطب الأطفال.
مما يتميز به ابن جزلة في ميدان العلاج أنه كان يؤمن بأهمية الموسيقى في شفاء الأمراض والوقاية منها، وقد قال في هذا الشأن: إن موقع الألحان من النفوس السقيمة مثل موقع الأدوية من الأبدان المريضة.

مؤلفاته:
له مؤلمات قيمة منها: (تقويم الأبدان في تدبير الإنسان) الذي رتب فيه ابن جزلة أسماء الأمراض في جداول، مع وصف طريقة علاج اثنين وخمسين وثلاثمائة (352) مرض. وقد طبعت منه نسخة باللاتينية في ستراسبورغ سنة 1532. قام ابن جزلة بتقسيم الأمراض إلى 44 فئة في هذا العمل. ومنها:
(منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان)، الذي تتجلى مادته الثرية في قدرته المنهجية على تسمية الأمور بمسمياتها، قسماً فيه ما يرد على البدن من المأكولات والمشروبات إلى دواء، وغذاء، وغذاء له قوة الدواء، ودواء قتال «سم»، وأوضح تأثير كل منها في البدن، وتحدث عن تنوع الأغذية بحسب كيفيتها وجوهرها، ومصادرها النباتية والحيوانية، ثم قسم الأشربة إلى: مياه، وأنبذة وأشربة تقوم مقام الأدوية، وتحدث عن الأغذية التي يكره الجمع بينها في المعدة كالأغذية المتشابهة، والتي يستحب الجمع بينها في المعدة، والتي تعمل على إصلاح بعضها ببعض؛ وقد أعطى ابن جزلة أهمية بالغة في كتابه للتجربة والقياس في عمل الأدوية، والأسباب الداعية إلى تركيب الدواء، بل وصل إلى التدقيق في مقادير وأوزان الأدوية المفردة المتخذة منها الأدوية المركبة. وقد صنف ابن جزلة صفات الدواء المفرد الداخل في الدواء المركب وهي: قوته أو ضعفه، وكثرة منفعته أو قلتها، وشرف منفعته أو خستها، وانفراده بالمنفعة أو مشاركته غيره له فيها، وبعد العضو المداوى أو قربه، ومضرته لبعض الأعضاء، أو لبعض الأدوية التي في المركب، ووجود دواء في المركب يمكنه إضعاف قوة الدواء النافع، ثم بين أن مقدار الدواء المفرد يتفاوت كثرة وتوسطا وقلة بحسب حالة الدواء في القوة والمنفعة، أو لانفراده بصفة واحدة من تلك الصفات، أو لاجتماع صفتين منها فيه، وبتركيب الطرق المذكورة مع بعضها ينتج عنها اثنتان وسبعون صورة لمقادير الدواء المفرد الداخل في الدواء المركب..
ومن نتاجاته الطبية (الإشارة في تلخيص العبارة)، و(كتاب أمراض الرأس)، و(رسالة في مدح الطب وموافقته للشرع) و(كتاب الصحة بالأسباب الستة) وهو كتاب في طرق الوقاية الصحية من الأمراض، و(كتاب العلم بتدبير الأمراض ومعرفة الأسباب والأعراض) وقد وضع في هذا الكتاب جدولا مختصرا لكل مرض، و(رسالة في الرد على النصرانية).

وفاته:
توفى ابن جزلة سنة 493هـ في بغداد تاركًا وراءه أسسا رائعة لما نسميه في عصرنا الحاضر بالطب السريري, الذي يعتمد على العلاقة المباشرة بالمريض دون الغرق في المباحث الطبية النظرية.

نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله