تأملات في نهج البلاغة: وداع أمير المؤمنين للرسول الأكرم

DSC09384

عبد الرحمن الشريفي

للامام علي (عليه السلام) كلمات قالها وهو يقوم بمراسيم غسل رسول الله (صلى الله عليه واله) ويشرف على تجهيزه ودفنه. والامام في هذا الموقف يستشعر ثقل مصابه بفراق رسول الله (صلى الله عليه واله) ليستخرج من قلبه المكلوم كلاما يظهر فيه عمق هذه المصيبة وأثرها عليه وعلى الأمة من بعده.

نهاية مسيرة الوحي
يبدأ كلامه بالتفدية بقوله (بابي انت وامي يا رسول الله) لأن مقام الرسول والفراغ الذي تركه بموته لا يرقى اليه احد.
ثم يردف قائلاً: (لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّة ِوَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَار السَّمَاءِ).
أي ان موت أي نبي قبلك يعقبه نبي آخر لتتواصل اخبار النبوة، ولكن بموتك النهاية لهذه المسيرة الحافلة بالأنبياء فلا نبي بعدك لأنك خاتم الانبياء وترتب على ذلك أنه لا انباء برسالة من السماء بعدك، لا اخبار منها تُعنى بالدنيا والآخرة تصل إلينا وحياً بعد رحيلك.

فراق الحبيب والتمسك بالسنة النبوية
ثم يبين الامام اثر الفراق عليه وعلى الامة فيقول: (خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاك وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً) أي ان مصيبتك آثارها على الناس سواء الخاص منهم وهم اهل بيتك او العام منهم وهم الناس جميعا لا يلتفتون الى ما يصيبهم بعدها من مصاب فصرت مسليا عمن سواك من مصائبهم.
ثم يظهر الامام(عليه السلام) مدى التزامه بسنة رسول الله فيقول: (وَلَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ) ويعين انه لولا التزامنا بأمرك يا رسول الله بالصبر في مواطن المكروه والنهي عن الجزع عند نزول الشدائد لأفنينا على فراقك ماء عيوننا من منابعها إذ ينحدر منها بعرقين الى الحاجبين ثم العينين.
ثم يشير الامام الى ما يترتب على نفاد ماء العيون فيقول: (وَلَكَان َالدَّاءُ مُمَاطِلًا وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً) ان آلام المرض والحزن من عادتها ان تفارق ولكن مرضنا بك وجزعنا عليك لا يكاد يفارقنا لثباته وتمكنه فهو لا يبرأ، واثر ذلك الحزن عليك يكون مزمنا لازما لا ينفك وهذا قليل عليك لو فعلناه فيقول: (وَقَلَّالَكَ) وقلا فعل ماضٍ متصل بألف التثنية بمعنى قليل أي ان مماطلة الداء ومخالفة الكمد لتقلان في مثل مصيبتك علينا.
بعد هذا يقول: (وَلَكِنهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ) فالموت حقيقة واقعة لا يملك رده بمعرفة اسراره والتحكم في صدقه ولا يستطاع دفعه اي ليس لنا طاقة وقوة بدفعه والحؤول دون وصوله، اذا لا فائدة للجزع والتضمد والانجع لزوم الصبر.
ثم يردد التفدية مرة ثانية وهي عند العرب تقال لمن يعز عليهم فيقول(عليه السلام): (بِأَبِي أَنْت َوَأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَرَبِّكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ).
ان رسول الله محمداً(صلى الله عليه وآله) من الاهمية بان يفتدى حتى بعد موته وانه حي بالإسلام الذي يمتد امده ما بقيت الحياة على وجه الارض.
ثم يقدم الامام بعد التفدية التماسا الى رسول الله بقوله (اذْكُرْنَا عِنْد رَبِّكَ) أي اسأل الله لنا المزيد من الخير فإننا من اهل طاعته.

كلامه بعد فراق فاطمة(عليها السلام)
وقد روي انه عليه السلام لما دفن فاطمة الزهراء(عليها السلام) بعد شهادتها بجوار النبي الاكرم، خاطبه قائلا: السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك. قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي. إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعز…
ثم اشار مخاطبا اياه الى معاناة اهل البيت من بعده فقال: (وسَتُنَبِّئُك َابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ) أي ستخبرك فاطمة بتعاون امتك على ظلمها حتى من حقها في فدك وتجاهلهم لأمر الله في الامامة من بعدك وامعانهم في أذاها وغلظة القول باهتضامها.
ثم يقول: (فَأَحْفِهَاالسُّؤَالَ) أي يا رسول الله استقصِ في أسئلتك لفاطمة عما لاقته ولاقينا من بعدك من النكبات.
ثم يشير الى سرعة الاحداث بعده والمضادة لأهل البيت فيقول(عليه السلام): (هَذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ) أي لم يطل بقاؤها بعدك ومع ذلك فقد بالغوا بالاساءة اليها على الرغم من أنّ ذكرك قائم بينهم في الصلاة التي لا تكتمل الا بالشهادة والصلاة عليك وفي القرآن الذي يتلونه وهو يأمرهم بمودة القربى.

سلام المناجاة والصبر على القضاء
والامام يودعهم منصرفا عن موضع مرقدهما فقال: (سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَاقَالٍ وَلَاسَئِمٍ فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ وَإِن أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَد اللَّه الصَّابِرِينَ).
يرشدنا الامام الى حقيقة السلام على الرسول وفاطمة الزهراء والائمة(عليهم السلام) بانه سلام مناجاة لهم كأحياء وانهم يمثلون ارادة الله في اقامة الحق الى يوم القيامة قبال ارادة الباطل في اقامة الجور.
ثم يشير الامام الى حقيقة ان تردده على زيارتهم واقامته بجوارهم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين من الاجر فيقول: (وَإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَد الله الصَّابِرِينَ).
والامام يشير بكلامه اعلاه إلى أن الذين يحزنون على موتاهم فيلازمون القبور لشدة هذا الجزع والأسف يصابون بوهم وشك بانه لا عوض عن ذلك الميت ولا اجر على التعزي والصبر عليه.. وهذه الافعال بعيدة عما وعد الله به الصابرين على نزول المصائب المقرونة بصلاة الله ورحمته ومصداق ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّاإِلَيْه ِرَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)-البقرة/156 – 157-.

نشرت في الولاية العدد 87

مقالات ذات صله