المنهج التنموي عند الامام امير المؤمنين (عليه السلام)

553545-34

رملة الخزاعي

لم يكن امير المؤمنين مجرد قائد ومرشد ديني، ولم يكن  سياسياً يهمه توطيد سلطته وحكمه فقط، بل كان مصلحاً وقائداً يريد ان يصل المجتمع الى الكمال، فكان يسعى ويبذل الجهد كي يجعل الأمة ارقى وارفع اخلاقا وسلوكا، فنراه عليه السلام يهتم كثيرا لأمر الشباب في المجتمع آنذاك فكان يحث على الفروسية وعلى تعلم الفنون القتالية فضلا عن ترسيخ الامور الدينية والعقائدية، فكان عليه السلام صاحب مشروع حضاري يهدف الى بناء الفرد من خلال استغلال طاقاته، فالذي يتتبع سيرة امير المؤمنين عليه السلام يجده رائد التنمية البشرية التي ظهرت وانتشرت في هذه السنوات وبدأ مدربون بتدريب افراد المجتمع وخاصة الشباب وهذا الامر ركز عليه الامام علي قبل 1400 عام.

اهداف وتوجهات:
من سيرته نلحظ اموراً ركز عليها مدربو التنمية البشرية اليوم منها: ان على الانسان ان يفجر ويستغل طاقاته الكامنة التي اودعها الله فيه وعليه ان يشارك الناس في اعمالهم من باب المساعدة والتعاون لترسخ في المجتمع روح التواد والتعاون والتآخي هذه الامور وغيرها نجدها واضحة جلية في سيرة امير المؤمنين واقواله منها ما جاء في نهج البلاغة:: (أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا، ولا تَأْسَفَا عَلَى شَيءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وقُولا بِالْحَقِّ، واعْمَلا لِلأجْر،ِ وكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، ولِلْمَظْلُومِ عَوْناً. أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ، ونَظْمِ أَمْرِكُمْ، وصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا يَقُولُ (صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ والصِّيَامِ). اللَّهَ اللَّهَ فِي الأيْتَامِ، فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، ولا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ…) هذه الاقوال له عليه السلام وغيرها انما تحث على امور غاية في الانسانية كالسعي في الاصلاح الاجتماعي والاصلاح بين المتخاصمين واعانة المظلوم ولو رجعنا الى رسائله لولاته للمسن امورا تنظيمية غاية في الدقة فهو يوصي بالعدل والمساواة وحفظ حقوق الاخرين واداء الواجبات فمن وصاياه عليه السلام لولاته الوصية التي عدّها اهل الاختصاص دستورا للقادة وهي وصيته لمالك الاشتر: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ، ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ( فيؤسس الامام عليه السلام للجوانب الانسانية وينميها في نفوس ولاته وافراد مجتمعه.
ولم يكتف الامام بالتوجيه فقط بل كان له دور رقابي فالإمام اول من عمل (بنظام الحسبة ) وهو نظام يقوم على مراقبة الولاة والتجار والقادة العسكريين وكل من لديه منصب قيادي في جانب ما، كي لا يسيئوا استخدام مواقعهم فهذا النظام كثيرا ما كان يلاحظ في السوق فكان يتنكر ويراقب ولا يكتفي بالحث.
ونجد هذه المفاهيم ايضا في وصاياه في نهج البلاغة مثل قوله في احدى الوصايا:( ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً … ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ).

تنمية روح التعبير عن الرأي:
ومن الامور التي ركز على تنميتها الامام قضية التنمية السياسية فكان يشجع ويؤسس لتتولد الشجاعة لدى افراد المجتمع للجهر بآرائهم ولو كانت ضد السلطة الحاكمة وكان يحذر من مغبة التزلف والتملق للحكام فمن اقواله: (فَلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ-أي عند أهل الغضب- ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ -أي بالمجاملة- ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي)
وقد كان الامام يعلن انه ضامن لأصحاب الرأي الذين يعارضون كلمة الباطل، ومن مصاديق هذا الامر ان الامام حتى من يعارضه في قضية معينه او يعترض على حكم الامام لم يتخذ ضده موقفا سلبيا – ان كان لا يشكل خطرا على المجتمع – فمما تنقله كتب السير والتاريخ ان الامام كان يخطب في المسجد فقام رجل من الخوارج فقال بأعلى صوته (لا حكم الا لله) فسكت عنه الامام فأعادها اخر فسكت الامام ايضا واعادها ثالث وسكت الامام فعندما كثر ترديدها كان رد الامام عليه السلام عليهم: (كلمة حق يراد بها باطل) ثم قال لهم امام المسلمين: (لا نمنعكم من مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به) وهذا الامر لم يفعله قائد ولا سياسي على مر التاريخ فكان يعطي الحريات للآخرين بأن يعبروا عما يريدون ويشجع على ابداء الرأي وان كان مخالفا للرأي العام على ان لا يتسبب بفوضى تربك المجتمع وتهدد امن الدولة.

الرجوع للمنهج التنموي :
هذه نماذج من البرنامج التنموي البشري لدى الامام علي، والمتخصص وصاحب الخبرة في العلوم التنموية يستطيع ان يجد عشرات ان لم تكن مئات من البرامج التنموية البشرية التي اسس لها الامام علي عليه السلام بل مارسها وتربى من تربى عليها كمالك الاشتر وعمار والمقداد واخرين وما احوجنا اليوم للرجوع الى منهج الامام علي التنموي الذي استطاع به ان يرقى بثلة طيبة حملوا على عاتقهم مسؤولية النهوض بالواقع المزري للمجتمع الذي عاشه الامام في فترة تسلمه للحكم فلا يخفى على ذو لب ما كان في المجتمع من تيارات متعارضة واراء متخالفة ومصالح تضرب بعضها.
فالمنهج الذي اتبعه الامام في تكوين القدرات البشرية لتطوير المهارات والاستفادة من قدرات الاخرين والتفكير في تحسين اوضاع المجتمع بكل جوانبها، مهم وضروري لنا اليوم فنحن بأمس الحاجة لهذه الامور التي اراد الامام للمجتمع ان يرقى من خلالها لكن للأسف نجد ثقافة الخمول تطغى على شبابنا اليوم ونحن بأمس الحاجة لفكر وسلوك يجابه الهجمات الثقافية التي تشن على مجتمعاتنا الاسلامية.

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله