السيرة النبوية.. حلم الفضيلة والعدل

محمد-رسول-الله

شاكر القزويني

كان توقه للأمة السعيدة الحرة يطرق باب أحلامه ليل نهار، ملحاحا على نفسه قاضّاً سكينتها، وكان مشهد العذابات الانسانية صورا تترى، تتقلب في الحدث اليومي كمأساة تقرها طبيعة الحياة البائسة، العبيد يتلوّون من القسوة والبطش، والمساكين تقتلهم ساعات انتظار فتات موائد الأسياد، وكرمهم الذي تغنّى به الشعراء وأنشدته الغواني في الليالي الملاح لم يكن يقتسم الربح والمتعة على أساس الجهد ولم يولد فائض القيمة في قاموس نظامهم العبودي، ولم تكن المروءة والنبل والفضائل جميعها تسدّ رمق أكبر أغنيائها ولا صعاليكها الذين وقفوا كالشجا في حلق رأس المال المتكدّس في رأس القبيلة كأفاعي الميدوزا.

تراث جائر وواقع مرير
الليل محطة أخرى للتأمل، هل من وسيلة لإغلاق باب مدن هذه الآلام وهذا الذل الفاحش وذلك الرخص الذي اتسمت به سوق تداول الإنسان حتى بات بلا قيمة فصار يوأد في أول لحظة يفتح فيه فاه ينتظر مضغة حليب ولثغة من نهود عجاف، كانت تلك التساؤلات تقود لاجابات أكثر وأكبر الحاحا وتعقيدا، فلا الإجابات المتاحة تشفي الغليل ولا المتأمل يناغم الواقع الرافض للمنطق والعدل، بعد ان غادر الفضيلة وابتعد عن النظم التي تحاكي المثل العليا في سنة تخضع لها الحياة، وان كل ما مر من أديان ودول وتراث مجيد لم يضع حدا لتلك القسوة وهذا الهباء المتفشي بالحياة وكل تلك المجازر التي تتداولها القبائل بينها كهدايا تمنحها المناسبات اللعينة وبعض الإبل والخرفان التي تستفز غريزة شريرة للنهب والقتل والسلب والمتعة الفاحشة، وكأنه عرف له مآثره وفخره الذي لا يشينه كل تلك الجرائم التي سفكت الدماء والأحلام والأرزاق وفضت العذارى وسكينة الحياة وكل شيء جميل في تلك القبيلة الغافلة عن عدو يتربص بها .

العناية الإلهية
وربما اليتم أفصح عن الكثير من المعاني التي تدفقت من مشاعر طفل لا أب يتربى بحجره ثم يلتفت ليجد ان أمه قد غادرت هي أيضا الى عالم آخر يجمع الأحبة، ولا عزاء يعيدهم أو صلة تصلنا بهم لنعرف أخبارهم ودواعي سفرهم هذا الذي يحدث في غفلة من الوجود، برغم كل هذا ففي نفسه ما يغذيها تلك الطمأنينة والسلام وتلك القوة التي تنبثق رؤى وأحلاما وأفكارا تتلظى حتى تلامس الشمس فتحاكيها إشراقا ونورا، ليس عمه أو جده ومن أحاطوه بالرعاية والحب هم مصدرها فحسب، بل انها يد رحيمة عظيمة مدهشة كانت تلازمه خطاه والتفاتاته كأنفاسه اللاهثة وراء الحقيقة والنور، سارت معه وهو يتدرج طفلا ثم صبيا ثم شابا يافعا فرجلا ليس كمثل صفاته أي رجل، فكان الصادق الأمين، بين قوم لا يرعوون عن إتيان أي باطل وعن تحقيق أي نزوة قد يسال بمقصدها الدم دهورا حتى يشيب لها الطفل الرضيع.

علامات النبوة وتأملات مترقب
كانت الغمامة رفيق سفر والكهنة يتوافدون كزائر أتعبه الفضول والبحث عن مخلّص، أدهشتهم رؤية علاماته، وإن كان من بين الباحثين من اراد النكران والتشفي كذبا بأمة أسلمت روحها لصنم من حجر وخشب، وتركت لين الطبائع للكلمات فحسب، فكان الجلف والصلف والقسوة والشدة سنة تجاري رمضاء ارضهم وقفرها وشحة مائها وأمانها اللاهث بالعوز واستبداد الجاه والمال وقوة الرجال، فهذه الإنسانية الموحشة وهذا الصراع الطبقي الدامي وازدحام السراب في حقيقة الأشياء والأهداف والرؤى تلح وتعترض وتعتصم وتتظاهر داخل كل نفس ضاقت بهذه الدنيا الغاشمة المليئة بالوهم والخداع والرذيلة، فكانت الصوامع والكهوف محطة أخرى لرفض الواقع وملتجأ للروح ومتنفسا للطمأنينة والتأمل وهي تبحث عن سكينة وخلاص وإجابات لتلك العذابات الإنسانية التي أخذت تتكدس كجثث دون مقابر على أسطح المنازل وفي الطرقات، هذا المشهد القبيح، دفع إحساسه المرهف، بالوجود وبالقدرة الخارقة العظيمة غير المرئية القادرة على صنع أقدار أخرى ونهايات سعيدة لكل الفوضى التي لا تنتج سوى الألم والحزن، فكانت روحه تسافر الى غار حراء كل عام مع وصيه وحارسه الأمين .

نبؤه العظيم
تتابعت الإشارات التي تشبه الغيب عليه كأنها تبعث برسالات تكاد تفصح عن هدف كبير ومسؤولية خطيرة، فالأحداث تتوالى والعلامات تشير كل واحدة الى الأخرى، كأحجيات تتكامل الصورة فيها شيئا فشيئا، وكأن معجزة تشبه ما في نفسه من قوة نافذة ونقاء باهر وعشق مدله لعالم الغيب والرحمة والصلاح تنمو بين يديه، وكأن القدر استودعها عنده، ليحتضنه ويهز مهده، فلا يفارق فراشه فراشه، ولا يتخلف خطوه عن خطوه، يحدثه ما في نفسه فتستجيب أذنه الواعية كل لفظ وهمس وسكون وحركة، حتى أصبح هو، إلا أن اسمه ( علي ).

تقلبه في الساجدين
كانت معرفة الله الواحد بديهة حيث ترعرع، فكان ارثهم معرفة الله وتوحيده، ينحدرون من سلالة الأنبياء والموحدين، خلق من نور قبل هذا الخلق، ووضع في أصلابهم المطهرة، ينتظر موعدا يدخره الله لعباده، كي يفلحوا، وجاءت زوجه تعاضد هذا اليقين فغمرته بأحسن ما تكون عليه المرأة لبعلها، فشدت أزر حلمه حتى تحقق واقعا يحف به جبريل الأمين، حينها ذاب وجودها كله وما تملك فيه، وفي رسالته التي ستصنع دنيا جديدة وأمة هي خير الأمم أصبحت هي سيدتها، وابنتها، زهراء هذه الأمة، سيدة لنساء العالمين، ينبجس من رحمها المطهر الكوثر الدفاق أئمة منتجبين وحاكما عادلا يرث الأرض بعد موتها.
فاحتضنت كلمات ربه وصدقت عالمه القادم من السماء برغم رفض أهل الأرض، إلا عباد الله المخلصين، فكانت مع علي أول جيش يغزو به وأول حصن تحصن به مع الرسالة حتى اكتملت قلاعها وعلت أسوارها .

الحلم الذي تمكن من الروح
حالما بدأت كلمات الفتح المبين تدب في القلوب الظامئة، تفتحت أزاهير الإيمان وامتدت الغصون وابتدأ الغرس يعطي أكله، ثمرا جنيا طيبا له رائحة الفرح والسكينة التي لم تكن تنبت في جزيرة العرب، ولم تكن تصل لأحلام من تعودوا الجلوس تحت أشجار الحرمان والألم منتظرين رغيف صبر قد يسد رمقا جائعا أو يهجع قلبا محزونا، وكلما ازدادت الحشود المتجهة صوب ضوء الحرية والسلام، إزداد الإرث المهيمن بتقاليده الصلدة المتغلغلة بالصدور النتنة، بالغليان وإعلان الويل والثبور على كل من يبشر بولادة حلم جديد، فراح أسياد الجاهلية الأولى يضغطون وينهشون أجساد هؤلاء الحالمين، علها تخرج الى غير رجعة، وحين عجزت الأجساد عن لفظ ذاتها التي تحققت، بحثت قريش عن مصدر الحلم الذي بات في نفوس الناس يقينا صادقا يبز الواقع ويتحداه في سوح الوجود، فكان ومما لاشك فيه أنه صاحب الدين الجديد الهاشمي محمد بن عبد الله، وبنو هاشم عظيمو الشوكة والجاه وليس خيارا صائبا منازعتهم ومنازلتهم، فهم الليوث الشوس والصناديد الشجعان، فاجتمعت رؤوس التجبر حول شيطانهم الذي يعبدونه ليغمسوا ايديهم بدم الخطيئة والغدر، في عهد منهم لايفضونه مع إبليس أبدا.

اغتيال الحلم
فدبرت طواغيت مكة أمرا بليل، فضربة واحدة من كل سيف اجتمع من قبائل العرب، كفيلة بضياع دم الدين الجديد، وكان إزهاق الحلم الذي راود الأحرار لا حائل لتحقيقه سوى علي بن ابي طالب، ذلك الفتى الذي يحيط بابن عمه النبي الجديد من كل جانب، يدفع عنه السوء أينما وقع ويؤازره كقدر صنعته المعجزات الإلهية، فبات ليلته تلك في فراش الموت ينتظر السيوف وهو باسم مطمئن، وحين أتت لحظة ان ترقد المرهفات في جسد الحقيقة السماوية انبرى الفتى الغالب يقاتلهم بسيف الفداء وسيف الدهشة التي عقدت قلوبهم قبل السنتهم، فارتد الجرم خيبة في نفوسهم المنذرة بشؤم طالع من أرسلهم وخسة غدرهم .

كانت الهجرة صفحة طوتها الآيات، وكان بناء دولة من آجر حلمه العتيق واقعا يتحقق، وكان في بيت الله بيته، وبيت فاطمة بضعته وعلي صهره وابن عمه ووزيره، فكانت الأفكار تتوضأ بينهما وتصلي حين يبثها للمسلمين، وكان منبر النبي المآخي بين الأنصار والمهاجرين والأوس والخزرج، يرصف دستوره الجديد ، آية أية وسورة سورة وحديثا مفسرا وآخر موجها، فلا فساد ولا زيف ولا خديعة ولا قسوة ولا ظلم ولا خيانة ولا تواطؤ مع الأجنبي ولا نقض للعهود ولا استغلال للمنصب فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فكان يردد بينهم لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ـ وهي المعصومة المطهرة ـ إلا انها سنة دولة العدل التي يؤسس لها رب العزة لتحقق أحلام الحرية والرحمة والرفاه لتسود السعادة والأمان . انها الدولة التي لا يموت قائدها ولا يندحر .

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله