انقلاب المفاهيم

انقلاب-المفاهيم

السيد هاشم الميلاني

انّ الانسان يولد على الفطرة السليمة، و انّما ابواه يمجسانه او يهوّدانه ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ كناية عن دور البيئة والمجتمع والاسرة في صناعة شخصية الانسان و تكوين منظومته الفكرية و المعرفية. و قال تعالى: «قلْ كلٌّ يعملُ على شاكلته» ((الاسراء: 84)) ممّا يعني انّ مدار العمل ـ بمعناه الواسع الذي يشمل عمل الجوارح و الجوانح معاً ـ هو شاكلة الانسان أي المنظومة الفكرية والمعرفية التي يكتسبها الانسان بطرق مختلفة ويعتمد عليها في مجال عمله.

فهذه الشاكلة هي التي تحدّد مسار الانسان من هداية أو ضلال، تقدّم أو تأخّر، سعادة أو شقاء، و ذلك انّ من كانت شاكلته مبتنية و منبعثة من الفطرة السليمة الالهية كان مهتدياً وعلى خير، ومن بنی شاكلته علی الأهواء و الميول الباطلة، ابتعدت شاكلته شيئاً فشيئاً عن تلك الفطرة، وأصبح منكوس القلب بتبع تغيير المفاهيم عنده أو قل انقلابها، و ذلك انّ «من سلك الطريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التيه» (الخطبة: 201/نهج البلاغة) فالروافد المعرفية اذا كانت نظيفة و سليمة أنتجت سلامة الموقف و صحته، أما لو كانت خبيثة لم تنتج سوی الموقف السلبي و الانقلاب على الظواهر والثوابت.
لو رجعنا الی التاريخ و درسنا مواطن النجاح أو الانهيار و الفشل بدقّة، لرأينا انّ السبب الرئيس هي المفاهيم التي اعتمد عليها الناس و بتبعها نجحوا أو فشلوا.
نحن اليوم إذ نعيش المعترك الثقافي في عصر تعدّد القراءات والرؤیة الفكرية المختلفة مع ما نحمله من رسالة خالدة تهدف الی نيل السعادة في الدارين، وما نشاهده من أزمات يعيشها العالم الاسلامي، يلزم علينا الاهتمام بشأن المفاهيم ومعرفة مواقع الخلل والآفة، لنتمكن من أن نرسم شاكلة المجتمع علی أساس مفاهيم صحيحة مستقاة من القرآن و العترة ليصلح بها الفرد و المجتمع.
انّ أعداء الاسلام بعد ما فشلوا في إطفاء نور الاسلام، عمدوا الی تغيير هوية المسلمين و افراغ المفاهيم الايجابية من محتواها بحجّة التقدّم والتطور والحضارة، فهناك اسلام و دين لكنه فارغ، وكما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوباً». نحن هنا و لمعالجة هذه الظاهرة أي ظاهرة انقلاب المفاهيم و معرفة أسبابها، نتصفّح كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) الوارد في نهج البلاغة، لنقف على ما ورد في كلامه الشريف من معالجات و حلول لهذه الظاهرة، إذ كان هو (عليه السلام) مبتلی بها.
وان الانحراف عن الفطرة الالهية و بتبعه انقلاب المفاهيم و اختلاط الأوراق، له أسباب و عوامل عدّة يتخذها الانسان و يتمسك بها عن عمد أو جهل، الی أن يصبح منكوساً يری الحق باطلاً و الباطل حقاً. و فيما يلي نشير الی أهم الاسباب النفسية والاجتماعية كما ورد في نهج البلاغة.

1ـ إغواء الشيطان:
الشيطان يتقدّم خطوة خطوة الی أن يصل الی مراده، و هو العبث في المنظومة الفكرية والمعرفية للانسان حتی يقلبها، و بتبعها تتغير طريقة التفكير والسلوك، يقول الامام علي(عليه السلام): «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، و اتخذهم له أشراكاً، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم، و نطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، و زيّن لهم الخطل، فعل من شركه الشيطان في سلطانه، و نطق بالباطل علی لسانه» (الخطبة 7)
إذاً من الاسباب الرئيسة في عملية استحالة المفاهيم و انقلابها، متابعة الشيطان و اغواؤه بحيث تنقلب جميع الموازين فتصبح شيطانية بعد أن كانت رحمانية.

2ـ هوی النفس:
بمعنی انّ صاحب الهوی أعمی عن الحق و عن المنهج القويم لانّه لا يراه كما هو، ولذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يتخوّف من اتباع الهوی ويقول: «أيها الناس انّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوی، و طول الأمل. فأمّا اتباع الهوی فيصد عن الحق، و أما طول الأمل فينسي الآخرة».

3ـ حب الدنيا:
انّ حب الدنيا من أهم أسباب انحراف الانسان وانقلاب مفاهيمه شيئاً فشيئاً برغم وضوح البينات واتمام الحجة، وهكذا يتقدّم الانسان الی أن يخرج من طاعة الله تعالی ـ برغم تمسكه بالظواهر والمناسك ـ ليدخل في طاعة الدنيا، فمفهوم العبودية مع ما له من معنی شريف، يصبح فارغاً و مقلوباً ليمثّل عبودية الدنيا و الهوی والشيطان.

4ـ الفتن والشبهات والبدع
من العوامل المهمة لانقلاب المفاهيم و استحالتها، وقوع الفتن كالشبهات، قال(عليه السلام): (لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا)(الخطبة 16).
و كذلك الشبهة فانّها كما قال(عليه السلام): «انمّا سمّيت الشبهة شبهة لانّها تشبه الحق، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، و دليلهم سمت الهدی، و أما أعداء الله فدعاؤهم الضلال، و دليلهم العمی»(الخطبة: 38)
فالشبهة اذاً و الفتنة تسببان خلط الأوراق و العمی والوقوع في التيه، و عدم القدرة علی تشخيص الحق من الباطل، و بعبارة اخری انقلاب المفاهيم.
و للبدع أيضا، قسط وافر في هذا المجال، إذ قال(عليه السلام): « ما احدثت بدعة الاّ ترك بها سنة، فاتقوا البدع و الزموا المهيع»(الخطبة: 145).

5ـ الحكومات المنحرفة:
للحكومة والحاكم دور مهم في استقامة الناس أو ضلالهم، وذلك انّ الحكومة بما تمتلك من قوّة ومال ووسائل الاعلام بامكانها صناعة عقول الناس كيفما شاءت، فاذا كانت صالحة فانّها ستسوق الناس نحو الصلاح، و بخلافه لو كانت فاسدة، إذ انّها تخلط الأوراق و تقلب المفاهيم و تغير المنظومة الفكرية و المعرفية لدی الانسان.
لذا يعرّض الامام علي(عليه السلام) بالحكومات التي سبقته فيقول عندما هجم عليه المسلمون ليبايعوه بعد مقتل عثمان: «دعوني و التمسوا غيري، فانّا مستقبلون أمراً له وجوه و ألوان، لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول، و انّ الآفاق قد أغامت، و المحجة قد تنكّرت»(الخطبة 91).
فنحن نتساءل: لماذا لاتقوم القلوب و لا تثبت العقول لما يريد أن يصنعه أمير المؤمنين(عليه السلام) هل هو يريد أن يغير الدين و الشريعة حتی لا تستقيم له الناس؟! ام انّ هناك شئياً آخر، و هو التلاعب الذي حصل من جرّاء حكم السابقين بالمنظومة الفكرية و المعرفية لدی المسلمين بحيث انقلبت المفاهيم الصحيحة الى ضدّها و لا يستطيع عدل القرآن أن يغيرها إذ انّ الآفاق قد أغامت والمحجة تنكرت، والافاق هي آفاق عقول الناس أغامتها الشبهة والفتنة فانقلبت رأساً علی عقب.
وقال(عليه السلام) أيضا: «وكانت امور الله عليكم ترد و عنكم تصدر، و اليكم ترجع، فمكّنتم الظلمة من منزلتكم، و ألقيتم اليهم أزمتكم، وأسلمتم امور الله في أيديهم يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات»(الخطبة: 105).

6ـ علماء السوء:
لعلماء السوء دور بالغ الأهمية في استحالة المفاهيم عند الناس، إذ انّ الانسان بحسب فطرته يرجع فيما لا علم له به الی من يعلم، فالناس في امور دينهم يرجعون الی العلماء ليأخذوا منهم معالم دينهم، فلو كان العالم منحرفاً، لم تنتج هذه المراجعة سوی الانحراف و الضلال، وقد قال الامام علي(عليه السلام) في علماء السوء عموماً: «انّ أبغض الخلائق الی الله تعالی رجلان: رجل وكله الله الی نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدی من كان قبله، مضلّ لمن اقتدی به في حياته و بعد وفاته…» (الخطبة: 17).

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله