عالم الغيب يتحدث اليك

عالم-الغيب

رسول كاظم عبد السادة

الغيب في اللغة ما غاب عن الحس، وربما ما غاب عن الإدراك وان كان الحس من أدوات الإدراك، ان الاحاسيس التي نستشعرها من عالم الغيب في الحقيقة هي صادرة عن تلك العوالم

وإن أهل تلك العوالم يشعرون بنا ويعلمون ما نفعل، وهم مع ذلك، يحاولون تقديم النصائح لنا بكل ما يمكنهم لكننا لا نسمع، فاستعانوا بالوسائط الالهية وهم الانبياء والرسل والائمة لابلاغنا ما يريدون، لكننا هذه المرة لا نريد ان نسمع الا من عصمه الله بلطف هدايته، فما الذي يتكلم معنا من عالم الغيب وبماذا يتكلمون.

الزمان
الزمان يصنفه الحكماء من عالم الاعراض، وهو متغير لا يمكن ضبطه لانه في كل آن لحظة سوف ينتقل للآن الاخر وهكذا يكون سيالاً ابدا، وقد قسم الى ايام وسنين وشهور, فها هو اليوم الزماني يتحدث، قال امير المؤمنين عليه السلام : ما من يوم يمر على ابن ادم الا قال له ذلك اليوم : يابن ادم انا يوم جديد وانا عليك شهيد فقل فيَّ خيراً واعمل فيَّ خيراً اشهد لك به يوم القيامة فانك لن تراني بعده ابداً (أمالي الصدوق / 170).

اشياؤنا تتحدث الينا
ان ممتلكات المرء يتصورها صامتة، الا انها على الدوام تتحدث الينا بما عبر به اولياء الله عن معاني كلامها، فأموالنا تحذرنا من أن ننفقها في غير طاعة الله، وقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) قوله: يحول الله تعالى مال احدكم شجاعاً اقرع فيطوق في حلقه ويقول: انا مالك الذي منعتني ان تتصدق بي ثم ينهشه بانيابه، فيصيح عند ذلك صياحا عظيماً.
ودوابنا تحذرنا من ظلمها، فقد روي عن الرسول(صلى الله عليه وآله): اذا عثرت الدابة تحت الرجل فقال لها تعست، تقول: تعس أعصانا للرب (الكافي 4/ 229). اما ادوات الملاهي فهي تحذرنا من استخدامها في اللهو فقد سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلا يضرب بالطنبور، فمنعه وكسر طنبوره ثم استتابه فتاب، ثم قال: اتعرف ما يقول الطنبور حين يضرب ؟ قال: وصي رسول الله صلى الله عليه واله اعلم، فقال: إنه يقول :
ستندم ستندم أيا صاحبي
ستدخل جهنم أيا ضاربي

(مستدرك الوسائل ج 13 ص 220), ان ثمة مناسبة بين وزن هذه الابيات صوت الضرب على الطبل تنبئك بان الواضع للاشياء هو الله وحده .
اما ناقوس النصارى فانه بخلاف طنبور اهل الملاهي يتكلم بحكمة ولكن علينا ان نصدق ونؤمن بكلام الأولياء في نقلهم صفة كلامه، روي عن الحارث الاعور قال: بينما انا اسير مع امير المؤمنين عليه بن ابي طالب عليه السلام في الحيرة اذ نحن بديراني يضرب الناقوس، قال: فقال علي بن ابي طالب عليه السلام يا حارث، اتدري ما يقول هذا الناقوس؟ قلت: الله ورسوله وابن عم رسوله اعلم، قال: انه يضرب مثل الدنيا وخرابها، ويقول: لا اله الا الله حقاً حقاً صدقاً صدقاً ان الدنيا قد غرتنا وشغلتنا واستهوتنا، واستغوتنا يا ابن الدنيا مهلاً مهلاً يا بن الدنيا دقاً دقاً، يا ابن الدنيا جمعاً جمعاً، تفنى الدنيا قرناً قرناً، ما من يوم يمضي عنا الا اوهى منا ركنا، قد ضيعنا داراً تبقى واستوطنا داراً تفنى، لسنا ندري ما فرطنا فيها الا لو قد متنا.
قال الحارث : يا امير المؤمنين، النصارى يعلمون ذلك؟ قال: لو علموا ذلك لما اتخذوا المسيح الهاً من دون الله، قال : فذهبت الى الديراني، فقلت له: بحق المسيح عليك لما ضربت بالناقوس على الجهة التي تضربها قال: فاخذ يضرب وانا اقول حرفاً حرفاً حتى بلغ الى الموضع: الا لو قد متنا، فقال: بحق نبيكم من اخبركم بهذا؟ قلت هذا الرجل الذي كان معي امس، فقال وهل بينه وبين النبي من قرابة؟ قلت: هو ابن عمه، قال : بحق نبيكم أسمع هذا من نبيكم ؟ قلت: نعم، ثم قال لي: والله اني وجدت في التوراة انه يكون في آخر الانبياء نبي وهو يفسر ما يقول الناقوس(امالي الصدوق / 296).

اعمالنا واعتقاداتنا تتحدث الينا
تتجسم الاعمال الى الحد الذي تصبح فيه قوالب اشبه بالاجسام لتبلغنا المراد والجزاء منها فتكلمنا بلسان حقيقي، ومع ان الاعمال من جنس الاعراض الحالة بآلاتها الا اننا اخبرنا بانها تتكلم، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ان للمرء المسلم ثلاثة اخلاء, فخليل يقول له : انا معك حياً وميتاً وهو عمله, وخليل يقول له : انا معك حتى تموت وهو ماله, فاذا مات صار للورثة, وخليل يقول له : انا معك الى باب قبرك ثم اخليك وهو ولده(امالي الصدوق / 170). وعن احد الائمة عليهم السلام قال : اذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ست صور فيهن صورة هي أحسنهن وجهاً وابهاهن هيأة واطيبهن ريحاً وانظفهن صورة، قال فتقف صورة عن يمينه واخرى عن يساره، واخرى بين يديه واخرى خلفه واخرى عند رجليه، وتقف التي هي احسنهن فوق راسه، فان أتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثم كذلك الى ان يؤتى من الجهات الست، قال : فتقول احسنهن صورة من انتم جزاكم الله عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين: انا الصلاة، وتقول التي عن يساره، أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا يد من وصلت من إخوانك، ثم يقلن من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيأة فتقول أنا الولاية لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين( المحاسن / 232).

ادلاء الغيب في الدنيا
ان اكثر من يذكرنا في الاخرة ونحن منغمسون فيها اثنان: ملك الموت والقبر، لذلك فان لهم معنا كلاما لو آمنا بحقيقته قولا وفعلا لكنا في كمال الاستقامة، أما ملك الموت فانه المعني دون غيره من الغيب بإيصال مراده الينا لأنه لابد ان نلتقي به في الدنيا، قال امير المؤمنين عليه السّلام : ما مِنْ يَوْمٍ اِلاَّ يَتَصفَحُ مَلَكُ الْمَوْتِ فيهِ وُجُوهَ الْخَلآئِقِ، فَمَنْ رَاهُ عَلى‏ مَعْصِيَةٍ اَوْ لَهْوٍ، اَوْ رَءاهُ ضاحِكاً فَرِحاً، قالَ لَهُ: يا مِسْكينُ، ما اَغْفَلَكَ عَمَّا يُرادُ بِكَ اِعْمَلْ ما شِئْتَ، فَاِنَّ لي فيكَ غَمْرَةً اَقْطَعُ بِها وَتينَكَ.
واما اهل القبور فانهم في دوام التكلم معنا كلما سنحت لنا زيارة لهم، قال رسول الله : ما من احد مر بمقبرة الا واهل المقبرة يقولون : يا غافل لو علمت ما علمنا لذاب لحمك عن جسمك (ارشاد القلوب/ 175). والقبر نفسه له كلام يفصح فيه عن حقيقة امره وسر تكوينه، قال امير المؤمنين عليه السلام : ان القبر يقول كل يوم انا بيت الغربة، انا بيت التراب، انا بيت الوحشة انا بيت الدود والهوام. اما جوارح الانسان فهي وان كانت شهادية ولكن نطقها من الغيب، فانها مع أننا نملكها الا ان تحذيرها لنا يدل على انها ملكوتية النشأة، قال امير المؤمنين عليه السّلام : مِسْكينٌ ابْنُ ادَمَ ، لَهُ بَطْنٌ يَقُولُ اِمْلَاْني‏ وَ اِلاَّ فَضَحْتُكَ، وَ اِذَا امْتَلَأَ يَقُولُ: فَرِّغْني‏ وَ اِلاَّ فَضَحْتُكَ، وَ هُوَ اَبَداً بَيْنَ فَضيحَتَيْنِ.

عوالم الاخرة
اما عوالم الاخرة فلكوننا معنيين بها وان مصيرنا النقلة اليها فهي على الدوام تتحدث الينا كالدنيا فانها متجر المؤمنين فلا ينبغي سبها، قال رسول الله : لا تسبوا الدنيا فنعم المطية للمؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، انه اذ قال عبد لعن الله الدنيا قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه (ارشاد القلوب / 176).
و قال أمير المؤمنين عليه السلام: اعطي السمع أربعة النبي صلى الله عليه وآله ، والجنة ، والنار ، والحور العين ، فإذا فرغ العبد من صلاته فليصل على النبي صلى الله عليه وآله ويسأل الله الجنة ، ويستجير بالله من النار ، ويسأله أن يزوجه من الحور العين ، فإنه من صلى على النبي صلى الله عليه وآله رفعت دعوته ، ومن سأل الجنة قالت الجنة : يارب أعط عبدك ما سأل، ومن استجار من النار قالت النار : يارب أجر عبدك مما استجارك ، ومن سأل الحور العين قالت الحور: يارب أعط عبدك ما سأل.
وان النار تتجسد يوم القيامة بقالبها الحسي، فتخاطب الفريقين اهل الايمان واهل الكفر، عن النبي صلى الله عليه واله قال : تكلم النار يوم القيامة ثلاثة : اميراً وقارئاً، وذا ثروة من المال فتقول للامير : يا من وهب الله له سلطاناً فلم يعدل فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم، وتقول للقارئ : يامن تزينت للناس وبارزت الله بالمعاصي فتزدرده ، وتقول للغني : يامن وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضاً وساله الحقير اليسير قبضاً فأبى الا بخلاً فتزدرده(الخصال 1 / 25).
بعد كل هذا علينا ان ندرك ان كل شيء عالم مثل عالمنا مكلف، وقد بلغنا ما حمله الله الينا، قال سبحانه وتعالى(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) وان نبينا صلى الله عليه وآله رسول لكل العالمين والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صله