القوى الغيبية في القصة القرآنية..

ييي

احمد النجفي

الأحداث التي تعرضها علينا القصة القرآنية هي من نوع الأحداث التي تسير وفقاً للتدبير الرباني والإشراف الإلهي المباشرين نحو غاية معينة، ولذلك فلا عجب أن يتدخل الإمداد الغيبي واللطف الإلهي في تسيير كثير من حوادثها وسوقها باتجاه معين يخدم الرسالة والدعوة الإلهية.

المفاجأة في المعجز القرآني
وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن (العنصر أو العامل الغيبي) في القصة القرآنية يلعب دوراً مصيرياً حاسماً في تشكيل الأحداث وتغييرها وأحياناً قلبها رأساً على عقب، وعادة ما يكون هذا (العامل الغيبي) مصحوباً بعنصر المفاجأة سواء كان متمثلاً بعذاب أو إمداد ولطف أو معجزة خارقة، وهذا الطابع الفجائي يكاد يكون ملاصقاً للعامل الغيبي غير منفك عنه، فالعذاب لا يحدث إلا بغتة ـ كما صرحت الآيات القرآنية ـ كقوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) وقوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون).

اللطف بعد الامتحان العسير
واللطف الإلهي المنقذ لأنبيائه وأتباعهم لا ينزل هو الآخر إلا عندما تبلغ القلوب الحناجر، وعندما يوشك المؤمنون على اليأس كما في قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي مَن نشاء) وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)، ونريد بالطابع الفجائي للعامل الغيبي دلالة الظروف والملابسات المادية الظاهرية كلها على نتيجة معينة لابد ـ بحسب المعادلات المادية ـ من أن تنتهي إليها، وفي غمرة هذه التوقعات بالضبط يتدخل العامل الغيبي ليقلب مجرى الأحداث قلباً جذرياً أو يغير اتجاهها، تأملوا معي هذا المقطع من قصة موسى عليه السلام الذي يتجسد فيه هذا العامل بتلك المواصفات: (فأتبعوهم مشرقين. فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)، فالمعادلات المادية ترسمها لنا عبارة (إنا لمدركون)، والعامل الغيبي غير المتوقع يتمثل بنزول الوحي الإلهي بغتة بالنسبة لبني إسرائيل على موسى في تلك الظروف العصيبة حاملاً البشرى بالخلاص (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر). وهكذا تتغير مجريات الأحداث بتدخل هذا العامل الغيبي بل تسير في اتجاه معكوس فالشواهد المادية تقتضي أن يُدرك موسى وأتباعه، و تصفيتهم تصفية كاملة وانتصار فرعون وجنوده، ولكن العامل الغيبي جاء ليقلب هذه النتيجة باتجاه معاكس تماماً.

المفاجأة في العقوبة الالهية
أما فيما يتعلق بالعذاب الالهي فالأمثلة والشواهد كثيرة، ويمكن أن تكون معظم العذابات التي نزلت على الأمم التي كذبت الرسل وآذتهم شاهداً على عنصر المفاجأة في العامل الغيبي (بالنسبة للإنسان الكافر نفسه بالطبع)، ولكنا ـ مع ذلك ـ نريد أن نتوقف قليلاً عند أحد هذه الشواهد لبروز عنصر المفاجأة في قبال الحسابات المادية بروزاً أشارت إليه الآيات القرآنية إشارات صريحة، هذا الشاهد يتمثل في قصة صاحب الجنتين التي جاءت في سورة الكهف: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً. وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً. قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً. فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً. أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً) القصة ـ إذا نظرنا إليها من منظار مادي لا يدخل في حساباته العوامل الغيبية ـ لابد أن تنتهي بإثراء صاحب الجنتين إثراءً فاحشا بعد أن أنتجت الجنتان ذلك المحصول الوافر الذي بلغ من الضخامة حداً دفع صاحبه إلى أن يستشعر في نفسه الغرور والاستغناء عن الله تعالى، ولكن العامل الغيبي يأتي ـ كالعادة ـ ليقلب مجرى الأحداث وليوصلها إلى نتيجة مباغتة عكسية؛ إنها الفقر المدقع والشعور القاتل بالندم: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها) ولعل هذا العنصر الغيبي المفاجئ الذي تتميز به القصة القرآنية هو من أكثر العناصر جذباً للقارئ وشداً لانتباهه، فالقارئ عندما يتلو مثل هذه الآيات القرآنية التي تفاجئه بدخول العامل الغيبي إلى ساحة الأحداث يستيقظ في نفسه ذلك الشعور الذي يلازمه دائماً وهو يتابع القصص القرآني ألا وهو اليقين من واقعية الأحداث وصدقها ووقوعها فعلاً، مثل هذا الشعور من شأنه أن يجذب القارئ إلى أحداث القصة إلى أبعد الحدود، ومن شأنه أيضاً أن يمنح الأحداث حركة عنيفة، ويملأها بالصراع والتحركات التي تخرج الأحداث من حالة الرتابة والروتينية. والحقيقة أن هذه الميزة التي تنفرد بها القصة القرآنية ـ دونما منازع ـ تعد من آيات إعجاز القرآن التعبيري، فهي تجمع بين الواقعية والإثارة، ومثل هذه الميزة لا يمكن أن يؤمنها أي قاص دون أن يضطر إلى اضافة بعض المبالغات و(التكتيكات) إلى أحداث عمله القصصي.

الإعجاز البلاغي القرآني
أما القصة القرآنية فقد جمعت بإعجاز وبراعة بين الواقعية المحضة وبين عامل الشد والإثارة، ومثل هذا الجمع هو من شأن الإعجاز البلاغي القرآني وحسب. وقد يسأل سائل في هذا المجال: أليس من المفارقات أن تقلب مسيرة الأحداث بهذا الشكل بغير المتوقع، وألا يحدث هذا القلب رد فعل سلبي في نفس القارئ قد يصرفه عن متابعة القصة حتى النهاية محملاً بنوع من الاستنكار والاستهجان وهو يجد نفسه أمام نتيجة لم يكن يتوقعها؟
وجواباً عن هذا التساؤل نقول: إن مثل هذه المفارقات التي تترك ـ عادة ـ أثراً سلبياً في نفس القارئ، قد تصدق على (القصة البشرية) نتيجة لذلك الشعور الذي يلازم قارئها وهو يتنقل بين صفحاتها، ألا وهو الإحساس بأن القصة ليست واقعية تماماً وأن بعض أحداثها من نسج خيال الكاتب ومن ضمنها العناصر الفجائية القالبة لمجرى الأحداث، ولذلك فإن على الكاتب أن يكون حذراً جداً في اختيار نوعية تلك العناصر وإلا حدثت تلك المفارقات التي من الممكن أن تؤدي إلى فشل عمله القصصي، أما بالنسبة إلى (القصة القرآنية) فإن مثل هذا التساؤل لا يمكن أن يصدق مطلقاً، لأن المفارقات معدودة أصلاً فيها لما ذكرناه سابقاً من أنها تمثل قصصاً حقيقية حدثت بالفعل، ولذلك فإنها لا تتضمن أية مفارقة أساساً لأن المفارقة هي وليدة الاختلاق والافتعال.

نشرت في الولاية العدد 89

مقالات ذات صله