علي بن ابي طالب عليه السلام مبيد الظلم

o-DEAF-PRISONER-RIGHTS-DENVER-facebook

شاكر القزويني

الظلم ظل ابن آدم وأفياء شجره الوحشي المورق في ديجور ظلمة نفسه الممتدة على أغصان حرائقه المتلظية من دنيء الغرض وحب العاجلة في طلب الدنيا المستشرية في غابات الجشع والطمع في الملذات التي لا نهاية لها ولا حدود. وكانت أول ظليمة قام بها آدم هي ظلمه لنفسه الذي استوجب طرده من الفردوس مع زوجه حواء، تلك الجنة التي أمسكت بتلابيب أحلامه حتى بات عبدا لصورتها على الأرض دون الأصل في جنات النعيم.. ليكرر الانسان حينما يصل ظلمه لنفسه ولغيره، حتى بات كما قالت الملائكة لله تعالى حين أراد خلقه، فكان مفسداً سافكاً لدماء إخوته من بني البشر دون وجه حق، إلا انه الظلم الذي به يحكم وفي غيّه يسير. ا

الشرك ظلم لله تلقاه نفوسنا
وان من أشد الظلم وأوقعه ضررا وفسادا هو الشرك بالله تعالى، لأنه ظلم لذي الجلالة والإكرام، وهو ظلم لايقبل الله به في أي وجه من وجوهه. وأي جرأة بالمرء هي، إذ يظلم من لا يدنو لعظمته ولا لعزته شيء، وهو الغني عن العباد.
وفي هذا الشأن يقول ويفصل سيد الأوصياء عليه السلام من كلمة له في نهج البلاغة عن أنواع الظلم : « أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وَظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بالله قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً». وفي هذا القول يصبح تصنيف الظلم على ثلاثة أصناف واضحاً جلياً، فيضع أمير المؤمنين عليه السلام معيارية المغفرة، وإمكانية وقوعها من الله تعالى ودرجاتها أساسا لهذا التصنيف، فيكون في مقدمة الظلم، الظلم الذي لا يغتفر. أي ذلك الذي لا يغفره تعالى لعباده ممن يقعون فيه، وهو الشرك بالله. فلا يغفر تعالى أن يشرك به.

الظلم المغتفر
والصنف الثاني من أصناف الظلم، هو الظلم الذي يغفر، وهو ظلم الإنسان لنفسه، ويحدد أمير المؤمنين هذا بضابطة ان يكون من شاكلة الهنات، أي الذنوب الصغيرة غير المهلكة الموردة لغضب الله وسخطه.

الظلم الذي لا يُترَك
ويكون الصنف الثالث من الظلم، هو الظلم الذي لا يترك، وفيه يستوجب الله تعالى فيه القصاص على العباد في الدنيا أو الآخرة، بعدله ورحمته وحكمته التي وسعت كل شيء، فليس ربك بظلام للعبيد، فيجني العبد ما اقترفت يداه من ظلمه لأخيه الإنسان .
وفي موضع آخر من نهج البلاغة حديث ليعسوب المؤمنين عليه السلام يحذر فيه من عاقبة الظلم الوخيمة وفداحة الوقيعة الباطلة بالظالم والمظلوم، ويضع بلاسمه التي تشفي وطرائقه التي تهدي وسبل رشاد الخلاص من شراكها وفخاخها المؤدية للثبور والعذاب، فيقول سلام الله عليه: « فالله الله فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ الله عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ». فيكون عليه السلام بذلك قد بلّغ فبلغ وأشار فأفصح وشخّص فأصاب كبد الداء، فأتى بوصف الظلم ومكابدته وعاقبته في خطى نقيضه من دواء سلوكي من جنس الداء دافعاً بالبلاء والظلم ان يقع أو يدوم فيتفاقم « فيسبق السيف العذل»، فيقدم منهاج حياة للباحثين عن الخلاص والنجاة على طبق من السكينة والسلام والرضا .

السيرة المضيئة
ان سيرة علي بن ابي طالب عليه السلام قبس وهاج لأولي الأبصار، فما وقع منه على أخيه عقيل رحمه الله جاء في براءته عليه السلام من الظلم في كلام له بمكان آخر من نهج البلاغة، قال فيه : « وَ الله لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى الله وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَ غَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا وَ الله لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي… وَ الله لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بالله مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ». ذلك كان النبأ العظيم لا تأخذه بالله لومة لائم، فلا يقعد لحقٍّ إلا وأقامه، ولا يركن لباطل أو زلل طرفة عين، فتلك براءة أمير المؤمنين من الظلم ودفع لكل اثر منه.
مبيد الظلم
ولم يترك سلام الله عليه صفحة للظلم إلا وصفعها وأبدى سوءتها خشية الوقوع بها، فله مما يضع الظلم في الدرك الأفحش والشنار الأوحل في نهجه، فيقول: « قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ» فيقرن في حديثه عليه السلام فيقارب بجمل النصح، وان بدت مختلفة أو متباينة، إلا انها مترابطة عضويا معنى وسلوكا، فمعاشرة ومصاحبة الأشرار، وأكل الحرام، أليسا بابين للظلم ومسلكا للسير فيه، حتى يستنكر الظلم مبينا افحشه وأقبحه واكثره ضررا، ذلك في ظلم الضعفاء، بكل وجوههم الإنسانية، دون محدد وشكل.
ويدخل أمير الإنسانية لنكران الظلم من أوجه عدة، ليحفظ الحقوق والأخوة والصداقة وبناء الأسرة المتين فيقول سلام الله عليه: « وَ لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ وَ لَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ وَ لَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ وَ لَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ» . فعلي عليه السلام مجدل الأبطال في الوغى لهو الفاتك بالظلم أينما وقع سادا في وجوهه سبل النجاة، ففي نجاته هلاك للنسل والحرث فلا قيمة تبقى ولا صلاح.

نشرت في الولاية العدد 92

مقالات ذات صله