نحو تربية جديدة

kids-with-books

ماجدة العبيدي

ذكرنا في عددٍ سابق أن للنظام التربوي الإسلامي أربعةُ أبعادٍ رئيسة، أشرنا إلى البعد الأوَّل والثاني والثالث منها، والآن سنتكلم عن البعد الرابع من هذه الأبعاد وهو :- البعد العقلي
دلّت على هذا البعد أغلبُ الآيات القرآنية والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)؛ لأهميّته المباشرة في سير الإنسان واتّجاهه في هذه الحياة الدُّنيا. ومن الآيات القرآنية التي تؤكّد ذلك قوله تعالى:ـ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة /242، وقوله تعالى:ـ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف / 2 ، وقوله تعالى:ـ (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر / 18، وكذلك قوله تعالى:ـ (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك / 10، إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو الإنسان إلى التَّفكّر في ملكوت السموات والأرض واستعمال العقل في إقامة البرهان والتفكير بصورة صحيحة، فالقرآنُ الكريمُ يؤكّدُ على البعدِ العقلي في المحاورات وإقامةِ الدليلِ وإقناعِ الطرفِ الآخر،أما الإنسانُ الذي لا يستعملُ عقلَه فهو الخاسر الوحيد في هذه الدنيا وسيخسر الآخرة أيضاً.

مع المعصوم
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): إنه لا فقر أشد من الجهل ولا مال أعود من العقل ولا عبادة كالتفكر)، وقال الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: (كفاك من عقلك أوضح لك سبيل غيك من رشدك).
وَوَرَدَ كلامٌ للإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) يخاطب به هشام بن الحكم قائلاً: (.. فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) كتاب الكافي .
فنجد المعصوم يركز على أمر مهم وهو التعقل والتفكر، وتكاد تكون الأحاديثُ كلها تصبُ في رافدٍ واحد وهو أن العقلَ ميزان كل شيء، ومن هنا نستطيع القول بأن البعد العقلي من أهمِّ الركائز في المنهج التربوي الذي خطه أئمة أهل البيت عليهم السلام، فالمربي عليه أن يسعى ويجتهد في إقناع الآخر بطرق عقلية بعيدة عن أي مؤثرٍ آخر، فذوي الألباب هم مَن يتعقلون ويعقلون الأمور، وهذا ما نجده في خطاب السماء لابن آدم عندما استعمل الطرق التي تقنع الإنسان بحسب فهمه وإدراكه وتعقله للأمور، والإمام مستمر في خطابه لهشام إذ يقول:
يا هشام: ان الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلّة، فقال: «وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم* إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات قوم يعقلون».
هشام: قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال: «وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
يا هشام: ان العقل مع العلم فقال: « وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون
يا هشام: ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: « وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون
يا هشام: ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلاهم بأحسن الحلية فقال: «يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب .

الصمتُ دليلُ التفكرِ
يا هشام: ان الله تعالى يقول في كتابه العزيز: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب «يعني: عقل: «وقال» ولقد آتينا لقمان الحكمة «، قال: الفهم والعقل.
يا هشام ان لكل شيءٍ دليلا ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيءٍ مطية العقل التواضع وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.
يا هشام: ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
يا هشام: إن لله على الناس حُجّتين: حُجّة ظاهرة وحُجّة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ( عليهم السلام )، وأما الباطنة فالعقول.
يا هشام إن العقلاءَ زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة؛ لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته.
يا هشام: مَن أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فيتضرع إلى الله عز وجل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه استغنى ، ومن لم يقنعْ بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
يتّضحُ من خلال الآيات القرآنية والروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) أهميّة البعد العقلي في التربية الإسلامية، فهذا التركيز يَدُلُّ على أن البعد العقلي من الأبعاد الرئيسة والأساسية التي ركّز عليها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ثم بعث الأنبياء ليظهروا ما دُفِن من نفائس هذه الجوهرة التي أودعها الله في بني البشر وهي جوهرة العقل. والشيء المهم الذي تتميز به التربية الإسلامية وجود علاقة بين الدين والعقل تجعل العقل يتحرك وفق الإطار الديني، الذي يبيّن للعقل مساره واتّجاهه، لكي لا ينحرف عن الطريق الصائب وهذا ما لا تجده في بقية المدارس الوضعية فهي تحاول فصل الدين عن العقل وتجعل العقل مجردا من كل القيود.

نشرت في الولاية العدد 93

مقالات ذات صله