دولة العدل الإلهي في فكر امير المؤمنين عليه السلام

Criminal-Justice-Degree

السيد ياسين الجابري

لقد أولى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام موضوع العدالة اهتماما كبيرا يتضح ذلك من خلال سلوكه ومن خلال عهوده ورسائله الى ولاته بل يمكن القول أن كل أوامر ووصايا الامام عليه السلام انما تصب في مجرى ان يكون الحكم عادلا لذا نجده يقول (يجب على الانسان ان يلزم العدل في ظاهر افعاله لإقامة امر سلطانه وفي باطن ضميره لإقامة دينه)، وإننا لنجد في سلوك الامام واقواله مصاديق متعددة لدولة العدل الالهي التي ارادها.

انصاف الحاكم من نفسه
1. ان على الحاكم ان ينصف الناس من نفسه ومن خاصة أهله ومن له فيه هوى، وبعكسه فان الحاكم يكون قد وقع في الظلم وان من ظلم عباد الله كان الله له aخصما، وان الظلم سبب اساسي لتغيير نعمة الله وتعجيل نقمته لأن الله للظالمين بالمرصاد، وفي ذلك يقول الامام عليه للسلام: (أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ)(النهج شرح ابن ابي الحديد 17ص26)، كما ان الامام يوصي الولاة بعدم افساح المجال امام خواصهم وبطانتهم وعدم منحهم الاقطاعيات وتمليكهم الضياع التي قد تضر بمن يجاروهم من الناس مثل الاستحواذ على حصص الآخرين من ماء السقي والشرب فيقع الذنب والعائبة على الوالي (الحاكم) في الدنيا والاخرة، فيقول عليه السلام: (ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً وَلَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(النهج شرح ابن ابي الحديد 17ص69).

عدم استئثار الحاكم نفسه على الناس
2. ان حكومة العدل الالهي التي اسس لها الامام علي بن ابي طالب عليه السلام تقضي بان لا ياخذ الحاكم (الوالي) لنفسه بشيء يزيد عمّا يأخذه بقية الناس فيما هم فيه سواء فيقول عليه السلام: (وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ)(النهج شرح ابن ابي الحديد 17ص81).

وجوب عدم المساواة بين المحسن والمسيء
3. ان من المتطلبات الاساس لقيام دولة العدل الالهي كما يراها الامام عليه السلام وجوب عدم المساواة بين المحسن والمسيء لأن ذلك يجعل اهل الاحسان يرون ان لا فائدة من الاحسان ولا يقبلون عليه، ويشجع أهل الاساءة على الايغال في الاساءة، وان من الافضل ان ينال كل من المحسن والمسيء ما سعى اليه، فالمحسن ينال الكرامة والاحسان والمسيء ينال ما استحقه من العقاب والتعزير لأن ذلك من بديهيات العدالة الحقيقية، ومن ذلك يقول عليه السلام: (وَلَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ) (النهج شرح ابن ابي الحديد 17ص33).

الاهتمام بالمعوزين والفقراء
4. الاهتمام بفقراء الدولة ومساكينها وذوي الحاجة واهل الفقر الشديد وذوي العاهات ممن لا حيلة لهم ولا قوة ولا مصادر للرزق وكذلك الايتام وكبار السن ممن لا معيل لهم مما يجعل الحكم العادل لا يكتمل الا بإنصافهم، ويتمثل الانصاف لهذه الطبقة من الشعب حسب الرؤية العلوية بما يأتي:
– ان يجعل الحاكم بهم جزء من بيت المال وقسما من الثمار والغلات التي تنتجها اراضي الغنائم التي غنمها المسلمون من اعدائهم، وان يكون لهم منهم قاصيا كان او قريبا نصيبا من الرزق: (وَاحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ) (النهج شرح ابن ابي الحديد 17ص33).
– ان لا يشغل الحاكم عنهم البطر، أي الطغيان بالنعمة ولا الانشغال عنهم بأمور الحكم، لان الاهتمام بهم ورعايتهم ورزقهم هو اكبر واهم عند الله من كثير من الامور التي يقع على الحاكم امر متابعتها والاهتمام بها، قال عليه السلام: (وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ) (النهج شرح ابن ابي الحديد 61ص).
– ان الحاكم اذا لم يكن متاحا له الاهتمام شخصيا بهذه الطبقة ومتابعة شؤونها وارزاقها فعليه ان يكلف شخصا من الثقاة واهل الخشية والتواضع ليبحث عنهم ويتابع امورهم ويرفع الى الحاكم احتياجاتهم وتفاصيل اوضاعهم وعلى الحاكم تلبية الاحتياجات وتوفير مستلزمات العيش والحياة لهم لكي ينال رضا الله، قال عليه السلام: (وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَ كُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ) (النهج شرح ابن ابي الحديد ج17ص62).

وجوب حسن ظن الحاكم برعيته
5. من صور العدالة التي اسس لها الامام علي عليه السلام هي وجوب حسن ظن الحاكم برعيته (الشعب) حتى تسود الثقة بينه وبينهم وان لا يكلف الحاكم مواطنيه الا بالمقدار الذي بإمكان كل منهم الوفاء به وتأديته، وفي ذلك يقول: (وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا)(النهج شرح ابن ابي الحديد ج17ص34).

عدم سفك الدماء دون مسوّغ شرعي
6. لإقامة دولة العدالة المنشودة نجد ان الامام عليه السلام يأمر الولاة بالحذر من الدماء وسفكها بغير مسوّغ شرعي، كما ان الامام عليه السلام يؤكد على ان سفك الدماء الحرام لا يقوي السلطان وانما يضعفه ويوهنه، بل انه يحذر الحاكم حتى من القتل الخطأ الذي يمكن ان يحصل بغير قصد ويوجب عليه دفع الدية لأولياء الدم، فقال: (إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَلَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَلَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ وَلَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)(النهج شرح ابن ابي الحديد ج17ص79).

نشرت في الولاية العدد 95

 

مقالات ذات صله