وقفة مع السياق والتعبير القرآني

في-رحاب-القرآنفلاح السعدي

(مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُون) لكل آية من آي القرآن الكريم سياق وتعبير يمكننا من خلاله فهم المعنى الذي تتحدث عنه ومن هنا قالوا أنّ (السياق هو أعظم القرائن ).

وفي النظر والتأمل في الآية (44) من سورة الروم, نلاحظ ما يأتي:
1. أنه (جل وعلا) قدّم الكفر وأخّرَ العمل الصالح.
2. ثم ذكر عاقبة كلٍ من الفريقين, وقدم فريق الكفر على فريق العمل الصالح .
3. ذكر الكفر بصيغة الإفراد والعمل الصالح بصيغة الجمع.

بيان اللحاظ الأول والثاني:
وذلك أن التقديم والتأخير هو بحسب السياق وهو الذي يحدد هذا الأمر.. السياق هو في ذِكر الكافرين ومآلهم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)).
إذن السياق في ذِكر الكافرين فقدّمهم وقال(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه…) التقديم والتأخير كله بحسب المناسبة, لذلك نلاحظ يقدّم الكلمة في موطن ويؤخّرها في موطن آخر بحسب السياق الذي ترد فيه.
بيان اللحاظ الثالث :
الوقوف عند هذه الآية المباركة وقوف عند خطاب الباري (جل وعلا) للإنسان وبصريح القول ومن باب التخيير بين فعل الكفر وفعل العمل الصالح (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) والآية من آيات التعبير القرآني وهذا بيانه من خلال الآتي:
• الجزء الأول من الآية (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ…) جاء بالجزاء هنا بصيغة الإفراد حيث قال تعالى (فَعَلَيْهِ).
• في الجزء الثاني من الآية (…وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) جاء بالجزاء هنا بصيغة الجمع حيث قال تعالى (فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ).
• وجاء بعبارة (…فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) وكأن الله عز وجل يخاطب كل إنسان مشعرٍ بغناه عنّا وعن أعمالنا فلا يضرّه كفر كافر ولا تنفعه طاعة طائع.
فهو يخاطب عباده بصريح العبارة يقول مهد لنفسك الفراش الذي يناسبك للراحة عليه ومهد الطريق التي ستسلكها. وكلمة «يَمْهَدُونَ » مشتقّة من «المهد» على زنة «عهد» يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ للطفل، ثمّ توسع المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيئ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة.

بيان روعة التعبير :
ذكر بعضهم أنه جيء بالجزاء مفردا في الشرطية السابقة «فعليه كفره» نظرا إلى اللفظ وجيء بالجزاء «فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» جمعاً نظرا إلى المعنى، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأن العمل إنما يصلح بالإيمان على أنه مذكور في الآية التالية. كما لعله ذكر مع الكفر الافراد, لأن السيئة بمثلها وذكر مع العمل الصالح الجمع لأن الحسنة بعشرة امثالها والله يضاعف لمن يشاء …ثم ان العمل الصالح مكرّم عند الله تعالى فيستخدم الجمع للتفخيم وعكسه للكفر..
ومن جهة أخرى ان الكفر مفهوم مشكك له درجات بينما العمل الصالح مفهوم متواطئ فالكفر بذلك يكون كل بحسبه وبمقدار كفره واما العمل الصالح فعنوان يشترك به الكثير ومن هذا يكون السياق متوافقاً مع الكفر بالإفراد ويكون السياق متوافقاً مع العمل الصالح في الجمع.

العبرة ..قصة لطيفة ..علينا التمعن بها…
هناك رجل بناء يعمل في أحدى الشركات فبلغ به العمر فأراد أن يستقيل ليتفرغ لعائلته …! فقال له رئيسه بالعمل.. سوف اقبل استقالتك بشرط أن تبني منزلا أخيرا. فقال رجل البناء العرض على مضض وأسرع بانجاز بناء المنزل من دون أي ( تركيز ) وبعد انتهائه أراد أن يسلّم مفاتيح المنزل إلى رئيس الشركة..!
فأبتسم رئيسه وقال له…هذا المنزل الجديد لك لخدمتك في الشركة طيلة هذه الفترة والسنوات الطويلة، فندم رجل البناء أشد الندم…!
وهكذا هي العبادات التي تكون في فضض من غير اطمئنان واهتمام في حياتنا اليوم وعدم التركيز لله عز وجل …! فما كان هذا البيت إلا نتيجة ما يمهد هذا العامل طيلة السنين الماضية ويبني لنفسه بيتا يعيش ويرتاح فيه, هكذا هو الإنسان المؤمن الذي يمهد لنفسه مهدا ويبنيه بصالح الإعمال. نسأل الله وإياكم حسن العاقبة والخاتمة إن شاء الله تعالى

نشرت في الولاية العدد 95

مقالات ذات صله