دار الشفاء كرامات لا تنتهي

bo1a1791

د. عبد الهادي عباس الابراهيمي

بعد دفن أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بهذه البقعة المباركة من أرض النجف الأشرف أضحى مضجعه المطهر جواراً للمؤمنين وانيساً للذاكرين ومقصداً للمهمومين وباباً لأصحاب الحاجات ورجاءً للمبتلين بالأمراض والعاهات. وقد ظهرت للعيان الكرامات الباهرة من حضرة إمام المتقين صلوات الله عليه قديماً وحديثاً ووثقت في العديد من المؤلفات.. وقد ورد عن إمامنا جعفر الصادق عليه السلام قوله: ((نحن نقول بظهر الكوفة قبر ما يلوذ به ذو عاهة إلاّ شافاه الله)). وفي هذا المعنى قال الشاعر الحسين بن الحجاج (ت 391هـ) في مطلع قصيدته الفائية المشهورة:
  يا صاحبَ القبة البيضاء في النجف      من زار قبرك واستشفى لديك شُفي

ومن الجدير بالذكر انّ الرحالة العربي ابن بطوطة عندما زار النجف سنة 727هـ ذكر في كتابه الشهير الموسوم بـ (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) والمعروف برحلة ابن بطوطة ما نصه: (وهذه الروضة ظهرت لها كراماتٌ ثبتَ بها عندهم أنَّ بها قبرَ عليّ رضي الله عنه, فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب, وتسمى عندهم ليلة المحيا, يؤتى الى تلك الروضة بكل مُقعد من العراقين وخراسان وبلاد فارس والروم, فيجتمع منهم الثلاثون والأربعون ونحو ذلك, فإذا كانوا بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضريح المقدس, والناس ينتظرون قيامهم وهم بين مصلّ وذاكر وتال ومشاهد للروضة, فاذا مضى من الليل نصفه او ثُلثاه أو نحو ذلك قام الجميع أصحّاء من غير سوء, وهم يقولون: لا إله الاّ الله, محمد رسول الله, عليّ وليّ الله. وهذا أمرٌ مستفيضٌ عندهم سمعتُه من الثقات, ولم أحضر تلك الليلة ولكني رأيتُ بمدرسة الضياف ثلاثةً من الرجال, أحدهم من أرض الروم والثاني من أصبهان والثالث من خُراسان, وهم مُقعدون, فاستخبرتهم عن شأنهم فأخبروني انهم لم يدركوا ليلة المحيا, وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر).
أقول: أما فيما يخص العلاج الطبي الذي كان يقدم للمجاورين في مدينة النجف القديمة او لزوار المرقد المقدس فقد برز فيه حكماء كثر اختصوا بهذه المهنة وتناقلوها جيلاً بعد جيل. وعلى الرغم من ذلك لم يكن هناك مستشفى قد أُنشأ لعلاج المرضى الى أن زار الشاه عباس الأول الصفوي مدينة النجف في عام 1033هـ فأمر بجملة من الاصلاحات المهمة الخاصة بتوسعة وتعمير الروضة الحيدرية المقدسة بالإضافة الى تشييد مستشفى ومطبخٍ ودورات مياه لخدمة الزوار في الجهة الشرقية من جدار الصحن الحيدري بجوار مسجد الخضراء أي على يمين الداخل من باب الساعة المقابل للسوق الكبير. ولكن بعد مدة أُهملت هذه المنشآت فاشتراها خازن الحضرة الملا يوسف اليزدي (ت 1270هـ) من زعيم الطائفة يومئذ الشيخ محمد حسن الجواهري رحمه الله في سنة 1252 هـ وجعلها قيسارية (قيصرية) وفتح لها باباُ ينفذ الى الصحن الشريف لغرضه التجاري, وهو الباب المعروف اليوم بباب مسلم بن عقيل عليه السلام او (باب العبايجية) (يُنظر: ماضي النجف وحاضرها, جعفر محبوبة, 1/47-48).
وانا أرجّح انّ الذي أشار على الشاه عباس الصفوي بإنشاء هذا المستشفى هو العالِم الطبيب السيد محمد علي بن السيد مراد الحكيم الطباطبائي الحسني (جد السادة آل الحكيم الكرام في النجف الأشرف) الذي كان طبيباً بارعاً في مهنته ومن مؤلفاته كتاب (المجربات الطبية). فالحكيم جاء مرافقاً للشاه في هذه الزيارة وقد رأى ان النجف تفتقر لمركز متخصص لعلاج المرضى, ولا يبعد لمكانته العلمية ولخبرته الطبية انه قد ترأس وعمل في هذا المستشفى الى حين وفاته. وقد جاء في كتاب (الطباطبائيون في العراق) للعلامة السيد محمد صادق الحكيم رحمه الله ان السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم جاء الى النجف الاشرف زائراً مع الشاه عباس الأول الصفوي سنة 1033هـ ويقال انّه كان طبيبه الخاص ثم فضّل أن يقيم في النجف مجاوراً ومتبركاً في خدمة حرم امير المؤمنين عليه السلام… وكان باعث إقامته النجف أيضاً أن وجد حاجة المجاورين والزائرين إلى طبيب يعني بشؤونهم الصحية فآثرهم على وظيفته كطبيب الشاه الخاص.
وبعد وفاة الشاه عباس الاول الصفوي عام 1038هـ تقلد الحكم حفيده الشاه صفي وهو صاحب العمارة الحالية الفخمة للمرقد العلوي المطهَر. وعندما زار النجف سنة 1042هـ/1632م وتشرف بزيارة ضريح امير المؤمنين عليه السلام أمر بتشييد مستشفى واسع مربع الشكل ذي غرف وأواوين مماثلة لغرف وأواوين الصحن الشريف في الركن الجنوبي من الجهة الشرقية من جدار الصحن على يسار الداخل الى الصحن الشريف من باب الساعة. وكان لهذا المستشفى بابٌ صغيرٌ ينفذ للصحن لكن تم اغلاقه فيما بعد. وعُرف هذا المستشفى بـخان (دار الشفاء), كان يقصده المرضى من أهل النجف والزائرين لتلقي العلاج مجاناً ومتبركين بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام. وبنى الشاه صفي أيضا دار ضيافة ومطبخاً لإطعام الزوار. وفي نهاية الأربعينيات من القرن الماضي أزيل معظم مساحة هذه الدار بسبب إنشاء الشارع المحيط بالصحن الشريف, أما ما تبقى من الأرض (137م2) فقد تم ضمه لبناية مدرسة منتدى النشر التي أسسها الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله في سنة 1365 هـ بمساعي آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني قدس سره. (يُنظر تاريخ النجف الأشرف, محمد حسين حرز الدين, 1/383,208).
وفي فترة السبعينيات قررت الحكومة العراقية إزالة جميع الأبنية الملاصقة لجدار الصحن الشريف, فتم هدم مدرسة منتدى النشر وبذلك لم يبق لهذا المبنى التاريخي أي اثر.
وبعد زوال النظام البائد في عام 2003م وابتداء مراحل التعمير واعادة البناء لمعالم المرقد العلوي المطهّر تم التفكير بإنشاء مبنى في الركن الجنوبي من الجهة الشرقية مناظراً من ناحية الشكل الهندسي والمساحة لجامع الخضراء الذي يقع في الركن الشمالي من الجهة نفسها. وتم إعداد التصميم بمساحة كلية تبلغ 325 م2 على أن يتألف من ثلاثة طوابق يكون أحدها تحت الارض, وحصلت المباشرة بالمشروع بتاريخ 22-2-2012، وأنجز السرداب بنهاية العام 2012 وتم استغلاله من قبل دائرة الشؤون الهندسية للصحن الشريف, وتم التفكير باستغلال الطوابق العلوية كمركز طبي يقدم الخدمات للزائرين. وانا أعدُّ هذا الأمر تسديداً الهياً وتوجيهاً عَلوياً لأني لم أعثر ضمن المنشورات الإعلامية للعتبة العلوية المقدسة على أي إشارة الى ضرورة إعادة بناء دار الشفاء باعتباره معلما تاريخياً وتراثياً مهماً يؤرخ لحقبة زمنية معينة ويجسد معنىً روحياً مرتبطاً بقدسية الروضة الحيدرية المطهرة.
وفي بداية سنة 2014 م حصل الشروع ببناء القسم العلوي من هذا المبنى وغلفت جدرانه بالطابوق المنجور مع مراعاة النقوش والزخارف الإسلامية المستخدمة في تغليف جدران الصحن الشريف، وأُعلن الإنتهاء من إنجاز المشروع بتاريخ 1-1-2016 الموافق لليوم 20 من شهر ربيع الاول من عام 1437هـ , وتم تخصيصه لعمل المفرزة الطبية التابعة للعتبة العلوية المقدسة. وقد أرّخَ عام إعادة بناء دار الشفاء (1437هـ) الشاعر الشيخ حسنين قفطان بقوله:
يازائرا قبرا بتربته الشفاعة          والشفاء لمن يرومهما معاً
سلم على نفس الوصي فإنها     نفس بها الرحمن بارؤها سكنْ
وأذا وصلت لقبره الزاكي تجد       دارا له تهب الدواء بلا ثمنْ
كرما لخدمة زائريه تأسست        وبطبها فيض الولاء قد اقترنْ
ولمن أتاه مؤرخا (لاح اسمها       دار الشفاء جوار قبر ابي الحسن)

bo1a1776
ويضم المركز الطبي في الوقت الحاضر كادراً طبياً مختصاً وكفوءً يقدم أفضل الخدمات العلاجية والدوائية مجاناً للزائرين الكرام ولمنتسبي العتبة العلوية المقدسة بالتعاون والتنسيق مع دائرة صحة النجف الأشرف. وسُجِّل توافد مئات المراجعين يومياً على المفرزة الطبية لتلقي العلاج ويصل العدد الى الآلاف خلال الزيارات المخصوصة. فضلاً عن ذلك ينظم المركز الطبي بين آونة وأخرى حملات التبرع بالدم وتوفير الأصناف النادرة منه دعماً لجرحى الحشد المقدس وللمصابين بالأمراض المزمنة بالتعاون مع مديرية مصرف الدم, وآخر حملة تم تنظيمها كانت في شهر رمضان المبارك الحالي اذ توافد المئات من الزائرين للتبرع بالدم بعد الإفطار, لاسيما وانَّ المجاهدين من أبطال الحشد الشعبي وقواتنا المسلحة يسطّرون اليوم أروع صفحات البطولة والتضحية في مقاتلة المجاميع الإرهابية تلبية لنداء المرجعية الرشيدة في الدفاع عن الوطن والمقدسات.
وختاما أقول: إنَّ امانة العتبة العلوية المقدسة يجب أن تهتم وتراعي مسألة الحفاظ على المسميات التاريخية والتراثية لمعالم الروضة الحيدرية المقدسة, لذا يجب تغيير مسمى هذه البناية من (المفرزة الطبية) الى (دار الشفاء), وأن تُكتب هذه التسمية على جبهة الباب الرئيسة لهذه البناية الجميلة مع تثبيت تاريخ التأسيس لهذه الدار من قبل الشاه صفي الصفوي وهو 1042هـ/1632م وتاريخ إعادة البناء من قبل أمانة العتبة العلوية المقدسة وهو 1437هـ/2016م. ونظراً للأهمية الروحية والتاريخية لهذا المكان أرى من الواجب أن تخصص هذه البناية بطوابقها الثلاثة للخدمات الطبية حصراً مع تطوير وتنويع الأمور العلاجية المقدمة للزوار والمواطنين ولا سيما الفقراء منهم, والحمد لله رب العالمين.

نشرت في الولاية العدد 95

مقالات ذات صله