قصر امارة الكوفة

%d9%82%d8%b5%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%a7%d8%b1%d8%a9

تحقيق: علي الوائلي

قصر الامارة .. اسم مركز الدولة الاسلامية في الكوفة عاصمة المسلمين في بواكير الحكم الاسلامي ولا سيما في بلاد ما بين النهرين .. هو معلم يجاور مسجد الكوفة المعظم ودار الامام علي عليه السلام الذي بقيت معالمه شاخصة شامخة ليومنا هذا، فيه بيت المال ومركز السلطة آنذاك، بُنِيَ بعد ان تم انشاء مدينة الكوفة على ان تكون معسكرا ومنطلقا لجند الفتوحات الاسلامية حتى جعلها الامام أمير المؤمنين في فترة خلافته عاصمة له، شهدت هذه الحاضرة العلوية الكثير من الاحداث بعد ان تعاقب عليها الامراء والولاة لإدارة الحكم فيها، وحين قدم الامام علي عليه السلام الى الكوفة رفض الاقامة في دار الامارة هذا لسعته وكثرة مرافقه وفخامته قائلا: انها دار الخبال, وهذا يدل على شدة تواضعه وزهده وعزوفه عن الدنيا وزخرفها، أما اليوم فهو عبارة عن ادغال وخرائب وأطلال تنخفض وتندرس مبينة خضوع واذلال الدنيا الى دار أمير التقوى علي عليه السلام الذي شمخ واشرأب الى اعالي المجد والرفعة.

وكما يشير المؤرخون واصحاب كتب التاريخ فان الطابع الدموي للقصر كان سببا في هدمه ليس لحقن الدماء، وإنما لخوف السلطان من أن يوضع رأسه في موضع الرؤوس التي قطعت، إذ جاء في كتب التاريخ أن عبد الملك بن مروان الأموي جلس ووضع رأس مصعب بن الزبير بين يديه، فقال له عبد الملك بن عمير: “يا أمير المؤمنين، جلستُ أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس ورأس الحسين بن علي بين يديه، ثم جلستُ أنا والمختار بن أبي عبيدة فإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم جلستُ أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه، ثم جلستُ مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه، وأنا أعيذ أمير المؤمنين من شر هذا المجلس. فارتعد عبد الملك فرقا وخوفا وقام من فوره وأمر بهدم القصر”.
اليوم وبعد هذه السنين ارتأينا ان نزور هذا القصر ونقف عند أطلاله لنقف على بعض الاحداث المهمة التي جرت فيه فضلا عن تسليط الضوء على مدى أهميته التاريخية والحضارية وما تميز به هذا البناء وما آل اليه اليوم.
حدثنا الاستاذ الدكتور حسن الحكيم المتخصص في علوم التاريخ وأحداثه قائلا : جاء تأسيس قصر الإمارة مع تأسيس مدينة الكوفة وتخطيط المدينة في عام 17 هجرية وجرى العرف على ان المدن الاسلامية يخطط بها الجامع ويخطط بجوار الجامع القصر المعروف بالإمارة حتى يكون مقرا للحاكم، فاصبح قصر الامارة في الكوفة مقرا للولاة الذين جاؤوا الى مدينة الكوفة ونزلوا به عدا الامام علي عليه السلام، فحينما دخل الكوفة في عام 36 هجرية لم ينزل في هذا القصر وانما نزل في دار متواضعة لأخته ام هانئ، وهي من معاني زهده وتواضعه وعدم تعاليه وابتعاده عن رعيته لأي ذريعة كانت، وقد بقي بهذه الدار الى حين استشهاده .
القصر شهد احداث خطيرة لان في الصراعات السياسية للدولة وسبل هيمنتها وتسلطها على الرعية او حين تظفر بأي حركة مناوئة للدولة آنذاك، كانت تأتي رؤوس الثوار والمناهضين وتوضع في قصر الامارة وتعلق على جدرانها وأبوابها لكي تتباهى الدولة بقوة بطشها ونفوذها، مبينة انها قضت على المعارضة وان رؤوس المعارضة هؤلاء هي المشهد الدامي الذي سيكون عاقبة المخالفين والمعارضين, هذا هو قصر الامارة الذي شهد احداثا تاريخية سواء كان في العصر الاموي او في العصر العباسي وبقي عامرا الى ان فقدت مدينة الكوفة مركزيتها في الجوانب الادارية والسياسية في الحكم حيث بدأ بالاضمحلال والانهيار.

 

%d9%a2%d9%a0%d9%a1%d9%a6%d9%a0%d9%a5%d9%a2%d9%a8_%d9%a1%d9%a2%d9%a0%d9%a0%d9%a4%d9%a1

وبصدد اعادة اعمار هذا المشهد التاريخي أوضح الحكيم : نحن لا نستطيع اليوم ان نعيد هذا القصر الى شاكلته الأولى سوى في الاحتفاظ بأسسه اما هيكلته فمن غير الممكن اعادتها كما كانت، اذ لا يوجد لدينا وصف دقيق لها ليعاد تشكيله وبنائه، فيتوجب علينا الحفاظ على هذه الاسس دون اندثارها، وهذه امانة في اعناقنا.
ويروي لنا الباحث المؤرخ محمد علي ظاهر الملحة عن اهم الحوادث التي شهدها هذا القصر بقوله: ان قصر الامارة شهد الكثير من الحوادث بعد ان كان مسرحا ودفة تدير الكثير من الصراعات ولاسيما بعد موت معاوية بن ابي سفيان سنة60 للهجرة وجاء يزيد خلفا له، الذي لم يكن مؤهلا للحكم بكونه خليفة يدير دولة اسلامية تحكم بالقرآن والأحكام التي بشر بها النبي محمد صلى الله عليه وآله، ولذلك بدأت الانتفاضات والحروب بين المسلمين انفسهم وقد شهد هذا القصر تواجد رؤوس عدة بين دفتيه، حتى انه تُرِكَ عندما عاد الامويون مرة ثانية ليحكموا، وهكذا هي الكوفة لها مكانة اعتبارية لاحتوائها على مدارس النحو والقراءة والفقه، وتلك دلالة على اهميتها، ومن هذا المكان كانت توجه الجيوش وتحرر بعض المناطق الاخرى حتى انتهى القصر الى هذه الحالة، فقصر الامارة هو بيت المال ومركز السلطة وكانت له قيمته من حيث التحصن، فتحصن به عبيد الله بن زياد حينما جاء من البصرة بعد مجيئ الامام الحسين عليه السلام وكان محميا بالحراس فكان يعد كالحصن الى الوالي .
وحول العاقبة الالهية التي تحيق بالظالمين وبعض الفواجع التي حصلت في هذا القصر قال لنا الباحث والاعلامي هاشم محمد الباججي : ولله ارادة ماضية وعبرة جارية ما بين امسه وايامه الحالية .. فقصر الإمارة هذا الذي رفض الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يسكنه يوم كان أميرا للمؤمنين، وخليفة للمسلمين، وقائدا للأمة، وسكن في دار بسيطة مؤجرة تعود الى أخته أم هاني، أضحى بعده عامرا بالظلم والاضطهاد لآل بيت الرسول الاطهار وكان سببا في فسخ عرى الألفة والوحدة بين المسلمين، وزرع الكره والبغضاء بينهم، بسبب الدماء التي أريقت فيه، فقد قتل في أعلى القصر سفير الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل و قيس بن مُسهِر الصيداوي رحمة الله عليهما بعد ان ضربت أعناقهما ورميت جثتيهما منه، واليوم هو قصر خرب مندثر بجواره مسجد أعظم يذكر الله فيه وقبة ذهبية تطاول سماء الكوفة علوا وارتفاعا وشموخا كشموخ مسلم سلام الله عليه …
فيما يوضح مدير دائرة آثار وتراث النجف الاشرف محمد هادي بدن بان قصر الامارة يحوي مساحة شاسعة فهو يضم سورا خارجيا مدعما بأبراج نصف دائرية، والسور الخارجي يستخدم للدفاع عن السلطة والحاكم وسكان هذا القصر كما توجد مساحة تقع بين السورين، وقاعة تسمى قاعة العرش تستخدم للمناسبات الرسمية، ووجد الكثير من اللقى الاثرية والمسكوكات المكتشفة خاصة في التنقيبات التي جرت في عام 1938 والعام 1950 وفترة الستينيات حيث تم اكتشاف أواني زجاجية ومسكوكات فضية ونحاسية وذهبية فضلا عن مختلف انواع الجرار الفخارية وجميع هذه الاثار محفوظة في المتحف العراقي ببغداد لعدم امتلاك محافظة النجف الاشرف لمتحف يمكن عرض هذه الأثريات فيه.
وأشار بدن الى ان الهيأة العامة للآثار والتراث قامت بتجربة اكثر من طريقة للخلاص من المياه الجوفية الموجودة في دار الامارة في ثمانينيات القرن الماضي، فتم احاطتها بخندق خارجي ووضع مضخات لسحب المياه لكن هذه الطريقة لم تنجح وفشلت لا بل اتت بنتائج عكسية وذلك بازدياد تدفق المياه الجوفية الى داخل القصر، وكانت هنالك تجربة اخرى من خلال الحقن بمادة الاسمنت وهذه الطريقة مرفوضة حسب معايير اليونسكو باعتبارها مادة دخيلة وليست مادة اساسية في اعمال الصيانة والطريقة التي تم استخدامها في عام 2010 ـ2012 هو دفن الاساسات بالسبيس والجلمود وهذا اجراء مؤقت.

نشرت في الولاية العدد 96

مقالات ذات صله