بين مد وجزر

783

عذراء عبد الجبار

تجد القصة القصيرة جدا نفسها محاصرة، فتارة بعدم اتساع الطريق لمن لم يمد جذوره في ارض لم تعد ضخامة شجيراته تسمح بمجال ينافس على مندوحة من مكان لإثبات حضور فضلا عن تصدي يراد ان يشار له بالبنان وهو البرعم الغر، وتارة أخرى تنتابها ما انتاب كل جديد نما على سطح الابداع فلاقى أساطين التقليديين وهم يحملون عدتهم العتية المكتسحة لكل مخالف ومغاير ومبعثر ومحطم، فاذا بها حرب طالما فاز فيها ابداع الجمال المتغلغل بالروح والعقل بعذوبة التكوين والحضور اللائق.

حجج واهية
ترتكز بعض حجج من يقفون بالضد منها على حجم القصة القصيرة جدا الصغير ” جدا ” في وقت نجد فيه القصة القصيرة أيضا قد ثارت على الرواية وأعلنت الانفصال عنها محققة نجاحات لا تُحدّ وجمالات لا تحصى.
وإذا وجهت لها سهام النقد بسبب هجرها بعض عناصر السرد كالزمان أو المكان أو كليهما معا فهذا التحرر يزينها ولا يشينها بل ويُعلّق على صدرها وسام الشمولية.
وإذا تطاولت عليها يد النقاد لأنها تُكثّف الصور والمشاهد والرؤى إلى درجة تقرّبها من الغموض فهذا فخر وجمالية، تضاف، تحسب لها، فلقد قيل :” كلما ضاقت العبارة اتّسع المعنى ” لأن خيال القارئ يسرح في تصوّر المشهد كما يحلو له فيغدو مشاركا في كتابة النص غير مكتفٍ بلعب دور المتلقّي السلبي؛ و إذا جوبهت بأنها تدور حول حدث واحد وحبكة واحدة لا غير فهذا يقدّمها للقارئ على طبق من البساطة والوضوح بعيدا عن تداخل الأحداث وتشابك العُقد.
وإذا اتّهمت بأنها أباحت نفسها لكلّ من هبّ ودبّ من حملة الأقلام فهذا جُرم هي منه براء والجاني هو من يستسهلها وينتهك حرمتها.

علل بينية فارقة
و لعل الرمية التي تكاد ان تصيب منها مقتلا هو ضبابيتها التي تقلص الرؤية حولها فتجعلها عصيّة على الظهور بقوام فريد يميّزها عمّا يشبهها من أنواع القصّ الأخرى كالطرفة والنادرة رغم أنّ الفرق بينها شاسع.
فالطرفة ( النكتة ) هي نص سردي قصير يهدف إلى الإضحاك تحديدا، يختلقها الراوي ساخرا من الفكرة التي تختزنها معتمدا على مبدأ الإدهاش وعدم التوقّع ما يجعلها شبيهة بالأحجية. والبعض لا يفرّق بينها وبين النادرة.
بينما القصة القصيرة جدا لا تهدف إلى الإضحاك إطلاقا وإن لبست ثوب الطرافة أحيانا راسمة البسمة على وجه القارئ؛ ولعل ما يميّزها هو سخريّتها السوداء التي تفضح الواقع المرير والتي تستمطر الحزن بدل الفرح.
كما أنّ القصة القصيرة جدا تتميز عن ( النادرة ) في كونها تسرح في عالم الفانتازيا الخيالي الرائع بينما النادرة تسجيل حرفي لحدث اجتماعي أو تاريخي غير مألوف يتّصف بالغرابة والإدهاش لذا فالأَولى تصنيفها في خانة القصص التاريخي كما أن النادرة قد تترهل على مدى صفحات وقد تنكمش في سطور قليلة بحسب عدد الشخصيات والأحداث فيها، بعكس القصة القصيرة جدا.
أما تشبيهها بالفكرة فخطأ فادح لأن الفكرة قد لا تروي حدثا ولا تتلبس شخصية ولا تتأطّر في زمان أو مكان.
و الخاطرة أيضا تختلف عن القصة القصيرة جدا لأنها أشبه بالمناجاة والبوح الحكيم وهي بعيدة عن السرد المتضمن حكاية.
أمّا الومضة فهي لمحة موجزة تتأرجح بين الشعر والخاطرة وهي إلى الصورة الشعرية أقرب. لذا فهي أبعد ما تكون عن القصة القصيرة جدا.

عناصر ق.ق.ج الأساسية
إزاء ما تقدّم وبعد نفي علاقة القصة القصيرة جدا بالأنواع الأدبية الأخرى فلا بدّ من تحديد معالمها من خلال العناصر الأساسية التي يجب أن تتوافر فيها وهي : الحكاية : فعليها أن تحكي حكاية تماما كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقامة والنادرة و…
الشخصية: فلا قصة بدون شخصيات تُنجِز الحدث وتشكّل جوهر السرد الأساس ولا يُشترط في الشخصية أن تكون إنسانا فالحيوان والنبات والجماد كلها تصلح للعب الدور.
الوحدة: أي الإضاءة على حدث واحد بعينه مصوغ في حبكة واحدة تُبدي وضوحها للعيان لأن تنوّع الأحداث يستدعي تشابكها ويؤدي إلى تعدد الحبكات والعقد التي تقود إلى أكثر من احتمال وإلى تكرار الأفكار في معظم الأحيان ما يرمي بالقصة إلى هاوية الترهل والذبول.
التكثيف : ولعله الهوية الأبرز التي تحملها القصة القصيرة جدا وهو يعتمد على ضغط الصور والرؤى بشكل موجز مختصر يحافظ على جوهرها بكل مكوّناته دون شرح أو تفصيل أي على مقاسها تماما دون تطويل مملّ أو إيجاز مُخلّ. ولعل هذا الشرط هو الأصعب بين عناصرها لأنه يحتاج إلى الموهبة المبدعة والثقافة الثرّة والقدرات اللغوية والتركيز الذهني الشديد وهذه شروط تبدو تعجيزية يجفل منها الكتّاب فيديرون ظهورهم للقصة القصيرة جدا منصرفين إلى مجال إبداعهم الأساس.
المفارقة : وهي عنصر جوهري لأنها تتمحور حول تقنية تفريغ الذروة وصدم القارئ بما لا يتوقّع وهنا يلمع وجه الشبه بينها وبين الطرفة والنادرة لأن المفارقة تشكّل عنصر التشويق اللذيذ الذي يميز القصة الناجحة ويسكب المتعة والارتياح في نفس القارئ.
طغيان الجمل الفعلية : لأنها في إيحاءاتها الدلالية تشير إلى الحركة والحالة وهما شرطان لازمان من شروط السرد وهذا لا يعني الاستغناء عن الجمل الإسمية لضرورتها في الوصف الذي لا تحتفي به القصة القصيرة جدا في أغلب الأحيان؛ لأنه إن طغى على السرد هدم الحدود التي تفصلها عن الخاطرة وعن المقالة الوصفية.
العنوان : وهو رغم أهميته في النصوص على اختلاف أنواعها فإنه في القصة القصيرة جدا يجب أن يختار بدقة لأنه يلعب دورا حاسما مضيئا على المضمون شاحنا للرؤى والدلالات .
وحين تزدان القصة القصيرة جدا بعناصرها تأتلق فيها الفكرة وتنعكس عليها المرامي البعيدة والدلالات المبطّنة، فيستوحيها القارئ الفطِن متّكئا على المفردات الدالّة والمختارة بدقّة ودراية فإذا هو في دقائق معدودات يقرأ قصّة ممتعة غنية بالرموز والأبعاد والمعاني التضمينية في جوّ ساحر وساخر يُشكّله الخيال الخصب المنطلق من أرضية الواقع المرير الذي تعبث به قوى الشرّ والظلام لتجد القصة القصيرة جدا نفسها هي الأقدر على ملامسة المواضيع الحساسة كالعولمة وصراع الحضارات والديمقراطية والدكتاتورية وقضايا الإنسان العادلة والإرهاب في أسلوب يتوخّى التلميح مستغنيا به عن التصريح .
و القصة القصيرة جدا إذ تقدّم نفسها نوعا أدبيا جديدا له أنصاره ومؤيدوه المدافعون عنه تضع نفسها تحت طاولة التشريح مهيبة بالنقاد أن يوغلوا بمشارطهم الحادة غورا في بنيتها ليستخلصوا المطلوب منهم تجاهها كي تأخذ مكانتها اللائقة بها.

نشرت في الولاية العدد 96

مقالات ذات صله