الدواعي إلى تفسير القرآن

الشيخ جميل البزوني

قد يقال أن القرآن ما دام قد جاء بلغة عربية سليمة لم يداخلها غيرها, فما الداعي لوجود هذا الكم الهائل من التفاسير, بل والمناهج المختلفة في التفسير, وهذه القضية ليست ترفاً فكرياً, بل هي من مسببات بعض الآيات القرآنية, فربما يتصور إن التفسير ينافي قوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر) (القمر: 17), وكذا وصفه القرآن بأنه نزل بلسان عربي مبين في أكثر من آية (كما في سورتي الشعراء الآية 195, والنحل الآية 103), فهو على هذا غني عن البيان والتفسير؟
وأما الإجابة فإن وصفه باليسر أو إنه نزل بلغة عربية واضحة يهدفان إلى أمر آخر وهو إن القرآن ليس ككلمات الكهنة المركبة من الأسجاع والكلمات الغريبة, ولا من قبيل الأحاجي والألغاز, وإنما هو كتاب سهل واضح من أراد فهمه فالطريق مفتوح أمامه وهذا نظير ما إذا أراد رجل وصف كتاب أُلِّف في علم الرياضيات أو في الفيزياء أو الكيمياء فيقول: أُلِّف الكتاب بلغة واضحة وتعابير سهلة, فلا يهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلم ليوضح له المطالب ويفسر له القواعد.
ولأجل ذلك قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوين ما أُثر عن النبي أو الصحابة والتابعين أو أئمة أهل البيت (عليه السلام) في مجال كشف المراد وتبيين الآيات ولم تكن تلك الآيات المتقدمة مانعة عن القيام بهذا الجهد الكبير (انظر : المناهج التفسيرية في علوم القران / العلامة السبحاني / ص15)
بعد وضوح ما تقدم ذكره من عدم استغناء القرآن عن التفسير قد يكون من اللازم بيان الحاجة إلى التفسير ويتمثل ذلك في عدة محاور ووجوه:
الاول : ان الإعتماد في فهم القرآن على نفس الآية مع غض النظر عن أسباب نزولها, قد يؤدي الى إجمال معناها وعدم فهم المراد منها, ولذلك كان ضم سبب النزول الى الآية يفضي الى وضوح المراد منها, لأنه من قبيل ضم القرينة المنفصلة عن الكلام إليه أو من قبيل الاعتماد على القرائن الحالية التي عول عليها المتكلم في فهم كلامه, وعند تأمل قوله تعالى (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة /118), نجد عدم وضوح المراد من الثلاثة المتخلفين الذين ضاقت بهم الأرض, ولا نفهم أسباب ما وقع منهم, ولم كان عقابهم بالضيق, ولا المراد من ضيق الأرض, أو ضيق أنفسهم, ولم كان الانقلاب منهم حتى ظنوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه و.. وغير ذلك من التساؤلات التي يفرزها جعل الآية نفسها هي المنظورة دون أسباب نزولها, ولكن لو نظرنا الى تلك الأسباب أيضاً لأصبح المعنى المراد منها بيناً لا إجمال فيه ولا تشويش ومنه تظهر أهمية ودور سبب النزول في فهم المراد في جميع الآيات القرآنية.
الثاني : ان هناك تشابهاً في بعض الآيات القرآنية وهو يمنع من الفهم الصحيح للمراد منها, وذلك لأن ما يتبادر منها في باديء النظر قد يكون على خلاف ما يريده الله سبحانه منها, ولذلك فإن من كان مريض القلب قد يتمسك بالفهم البسيط لظاهر الآيات المتشابهة – رغم امتناعه -, ويصر على كونه المعنى الوحيد الذي يمكن ان يراد منها, بهدف التشويش وإحداث الفتنة وجعل ذلك هو تأويل الآية ومآلها, وأما راسخوا العلم فإنهم يعتمدون على فهم الآيات المتشابهة على ما يظهر لهم من الآيات المحكمة, التي هي أم الكتاب كما في قوله تعالى (مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران/7), وربما عد ذلك من أوضح صور تفسير القرآن بالقرآن والآية بمثلها.
الثالث : ورود ألفاظ ذات معان شرعية مجملة دون بيان كبعض ألفاظ التكاليف من الصلاة والصوم والحج, وبقصر النظر على الآيات التي ذكرتها لا يمكن فهم المراد من تلك الالفاظ إلا من خلال الرجوع الى السنة البيانية لشرح إجمالها.
الرابع : إن أسلوب تنزيل القرآن التدريجي على طول حياة النبي (صلى الله عليه واله) من أجل تثبيت قلبه الشريف كما في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان / الآية 32), وبحسب هذا الأسلوب فان الموضوع الواحد قد توزعت الآيات المتعلقة به بين السور, ولا ريب ان اتخاذ الموقف الشرعي في الموضوع الواحد يستدعي جمع الآيات المتفرقة المرتبطة ببعضها, لكي تتم عملية الاستنطاق وقد أشار الحديث النبوي المعروف (القرآن يفسر بعضه بعضاً) وقد (اختلفت الكلمات في وصف هذا المقطع فمنهم من قال حديث نبوي كالشيخ السبحاني في بعض كتبه ومنهم من وصفه بالقول المشهور كبعض العامة في بعض تفاسيرهم وقد ذكر العلامة ناصر مكارم الشيرازي بأنه رواية عن ابن عباس ولم يستبعد انه أخذها من النبي (صلى الله عليه واله) أو من علي (عليه السلام) وقد ورد ذلك في نهج البلاغة, والظاهر ان معنى هذه العبارة بسبب دلالة بعض الآيات عليها فقد وقع التسامح في وصفها رغم عدم وجودها في أمهات الكتب الحديثية عند الفريقين كما أشار الى ذلك العلامة السبحاني فتأمل)، الى هذا المعنى والقاعدة الكلية.
وقال الإمام علي (عليه السلام): ( كتاب تبصرون به, وتنطقون وتسمعون به, وينطق بعضه ببعض, ويشهد بعضه على بعض, ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله)( نهج البلاغة : الخطبة رقم 133)
وفي كلامه (عليه السلام) ما يعرب عن كون الرسول (صلى الله عليه واله) هو المفسر الأول للقرآن الكريم إذ يقول : (خَلَّفَ فِيكُمْ ..]أي رسول الله[ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرَامَهُ وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ) (نهج البلاغة : الخطبة رقم (1) والظاهر إن قوله : مبينا, بيان لوصف النبي (ص), والضمائر ترجع للقران الكريم لا الى الله سبحانه)
وقد ذكرت هذه الوجوه وأمثالها كأدلة مثبتة لعدم استغناء القرآن عن التفسير, وأضاف بعض العلماء وجوها أخرى قريبة من الوجوه المذكورة لإثبات عدم الحاجة للتفسير, أعرضنا عن التعرض لها مخافة التطويل(منها ما ذكره السيوطي في الإتقان في علوم القران والزرقاني في مناهل العرفان في علوم القران والقبانجي في مقدمات في علم التفسير وغيرها)

نشرت في الولاية العدد 97

مقالات ذات صله