تطور الحركة المكتبية في النجف الأشرف

ان تاريخ النجف الفكري والعلمي كما ذهب بعض المؤرخين إليه يبدأ مع ابتداء السكن أي منذ القرن الثاني الهجري أو بعده بقليل، بدليل ظهور بعض الإجازات العلمية بالاجتهاد التي يرجع تأريخها إلى القرن الرابع، وبدليل وجود خزانة للكتب في النجف كان ممن عني بها عضد الدولة البويهي المتوفي سنة 372 هـ وبدليل ما استنتج البعض من احتكاك النجف بالكوفة منذ أول تمصير النجف وسكناها، ومن هؤلاء الشيخ عليّ الشرقي الذي يقول: ففي القرن الثاني للهجرة بدأت العمارة والتشييد لمدينة النجف تدريجياً، فانتقلت المدرسة من الكوفة إليها، وبقيت الكوفة تصب في بحر النجف.
علماء الدين وحصيلة الكتب النادرة
بعد انتقال الشيخ الطوسي من بغداد، بعد أن أحرقت مكتبته، واستقراره في النجف الاشرف واتخاذها مركزا علميا كان لابد له من تعويض خسارة المكتبة السابورية التي كانت تضم نفائس الكتب والمخطوطات، فعمل على انعاش المكتبة التي كان يسميها بعضهم (المكتبة العلوية) أو (المكتبة الحيدرية أو مكتبة الصحن الشريف) وهي المكتبة التي يرجع تاريخ تأسيسها في بعض الروايات الى القرن الثالث أو ما بعده ، وبانتقال الشيخ الطوسي إمام الشيعة في عصره إلى النجف انتقل النتاج الفكري من جميع المدن الإسلامية الشيعية لغرض التلمذة على منبر النجف، وهاجر الجمع الغفير من سائر الأقطار الشيعية، بالأدب ومواعين الأدب على حد تعبير الشيخ عليّ الشرقي، فأوجدوا في النجف حركة فكرية تمتاز عن الحركة الفكرية في اُمهات المدن العراقية، وكانت المكتبات وما بدأت تجمع من الكتب النادرة، من أعظم أحداث الثقافة، وأهم ما تتميز به النجف، حتى لقد ندر أن يكون هنالك عالم ديني دون أن تكون له مكتبة خاصة، تحتوي على الكثير أو القليل من نوادر الكتب الخطية الفريدة.
يقول الدكتور صالح أحمد العلي … وبدأت العناية الشعبية والرسمية في حفظ التراث ومنعه من التسرب
قامت محاولات متعددة لجمع المخطوطات وصيانتها في مكتبات عامة موحدة يتاح للراغبين فيها القراءة والبحث، ولقد بلغ من شأن الكتاب وحتى الكتاب (العادي) أن يتقبله البزاز، والبقال، وغيرهما، فراجت تجارته، وراح يطوف تجار الكتب في أغلب الأقطار الإسلامية كالهند، وايران، يجمعون الكتب النادرة الفريدة وغير الفريدة، من المخطوطات القديمة فيأتون بها إلى النجف الأشرف ويزفون البشارة إلى هواة الكتب، والعلماء، والاُدباء، بما احتوى عليه تطوافهم من نفائس الكتب، ونوادرها قبل وصول الصناديق، أو قبل فتحها، فيستعد الشراؤون للشراء، قبل وصول البضاعة بأيام، ومن الذين عرفوا بمثل هذه التجارة في الحقبة الأخيرة كان آل الدشتي، وآل زاهد، وآل العاملي، وآل الشيخ صادق الكتبي، وكان هذا أشهرهم.
ورثة الحكمة .. أهلها
وقد التزم الوراث حين يموت المورث من أصحاب الكتب والخزائن بالمحافظة على المخلفات من هذه الكتب، ورعايتها، فلا يفرطون فيها إذا كان الوارثون من أهل العلم والمعرفة ما لم تكن هنالك حالة اضطرارية ترغمهم على اقتسام هذه الكتب، أو بيعها، فإذا ما اضطروا لبيع كتبهم نزلوا بها إلى سوق (المزاد) وسوق (المزاد) هذا سوق خاص بالكتب، يقام في كل يوم خميس، ويوم جمعة، من كل اُسبوع، وهما اليومان اللذان تعطل فيهما الدراسة في النجف الأشرف، فينتهز باعة الكتب هذه الفرصة، وينزلون بالكتب التي يعهد إليهم ببيعها إلى السوق، وتبدأ المزايدة من قبل الأساتذة وشيوخ العلم، والهواة، والطلاب، ولم يزل هذا السوق قائماً منذ العصور القديمة حتى اليوم.
أسواق الكتب وخبراؤها
وعرفت النجف في عصرها الأخير جماعة من العلماء عدّوا حججاً في معرفة الكتب النادرة من المخطوطات وقيمتها، وقد كسب هؤلاء من الشهرة ما استدعى أن يذكرهم التاريخ الحديث كخبراء بالكتب، ومؤلفيها، خبرة ابن النديم، وقد أدرك جيل القرن الماضي الشيخ عليّ كاشف الغطاء، والشيخ محمّد السماوي، والسيد جعفر بحر العلوم، والشيخ عبدالحسين الحلي، والشيخ أغا بزرك، والشيخ محمّد رضا فرج الله.
وفي يوم (المزاد) تتجه الأنظار كلها إلى الخبراء الذين يعرفون قيمة الكتب النادرة والمخطوطات، وخطاطيها، فينافسونهم في شراء الكتب التي يحاول هؤلاء الخبراء شراءها، لذلك كثيراً ما اضطر هؤلاء الخبراء للاستعانة بالبعض لشراء الكتب التي يعينونها لهم، وهم يجلسون عن كثب منهم خوفاً من منافسة الجهلة التي قد تسبب ارتفاع ثمن الكتاب أكثر من ثمنه المتعارف.
ويقول جرجي زيدان في النجف الأشرف عادة قديمة لا توجد في سواها من بلاد العراق وهي انه في كل نهار خميس، وجمعة، تقوم سوق تعرض فيها الكتب، وتباع في المزايدة، فمنها ما يباع بثمن بخس وهو ثمين، ومنها ما يباع بثمن غال وهو لا يساوي فلسا، وما ذلك إلاّ لجهل البعض ودراية البعض الآخر وذكائهم في مشترى المصنفات وكثيراً ما تعرض في سوق (المزاد) هذا رزم من أوراق وكتب وكراريس مشدود بعضها إلى بعض، فينزّلها من (يدلّل) بالكتب وينادي عليها في ميدان البيع باسم (الصفقة) وينادي عليها بصوت عال قائلا: انها صفقة لا تباع إلاّ جملة واحدة على كل عيب شرعي وكثيراً ما يعثر المشترون في هذه (الصفقات) على نفائس لا تثمن من المواثيق التاريخية، والكتب المفقودة، والنصوص الضائعة.
====================
المصادر :
تأريخ آداب اللغة العربية ج 4.
الأحلام للشيخ عليّ الشرقي.
عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبه.
موقع مكتبة الروضة الحيدرية ، مكتبات النجف القديمة

نشرت في الولاية العدد 97

مقالات ذات صله