أطباء الدكاكين

حيدر محمد حسين الكعبي

يتهافت كثير من طلبتنا في المدارس الثانوية على نيل أعلى الدرجات، فينفقون الملايين على الدروس الخصوصية، ويصرفون أوقاتاً طويلة على تعبئة ادمغتهم بالمعلومات الدراسية ليفرغوها في الامتحانات النهائية، والسبب في ذلك يعود الى أن أغلبهم باتوا مهووسين بدخول كلية الطب أو الصيدلة ونيل شهادتها، ولتهافت الجميع على هذا العنوان بات الدخول اليها يحتاج أعلى المعدلات الدراسية.
ومن حقنا هنا أن نتساءل: ما غايتهم من وراء نيل هذه الشهادة، هل لأن الطب مهنة انسانية، أم هل لأنهم يشعرون بالنقص في كوادرها فبادروا الى سد ذلك النقص؟

والجواب على هذا السؤال من دون رتوش هو: إن الوظائف الطبية متوفرّة والمستشفيات تفتح لهم ابوابها على مصراعيها، ودخلها المالي مضمون فالعيادت الخاصة تزدحم بالمرضى من مخلفات سنين عجاف على هذا الشعب الذي لم يعرف الراحة منذ اربع عقود، كما انها مهنة تضمن لصاحبها مكانة اجتماعية مرموقة وسمعة طيبة وعنواناً براقاً .. أو؛ ربما يكون الهدف إنسانيا في بادئ الامر ورغبة بخدمة الناس وتقليل آلامهم عند الكثير من الطلبة وهم في مقتبل أعمارهم وبداية مشوارهم المهني، الا أننا وللأسف نرى الكثير منهم وبعد ان لعبت المادة بين ايديهم أحمرها وأصفرها.. أنحرف الهدف وضاعت المهنة.
ربما يكون هذا الهدف مقبولا ومشروعا من باب السعي المشروع لتحسين المستوى المعيشي على قاعدة الربح والخسارة،أما في مهنة الطب فالاقتصار عليها يعد جريمة أخلاقية، لأن الطب قبل كل شيء هو “مهنة انسانية” لا مجال لأن تقدّم فيها المادة أولاً، لأنها إذا تقدمت أفسدتها لا محالة.
لذلك نجد أنه على الرغم من كل المؤهلات العلمية التي تتوفّر للأجيال الجديدة من الأطباء لم تكن تتوفر لأسلافهم من الأطباء، إلا أن الجميع يعلم أن الطب في العراق بات أدنى كثيراً من مستوياته المقبولة.
لذا نشهد اليوم ارتفاع حالات الوفيات، وعدم دقّة التشخيص للأمراض، ويعاني المرضى من كثرة الادوية التي تُصرف لهم، وربما يكثر الأطباء من صرفها لجهلهم بالتشخيص الدقيق، فلعل احد تلك الأدوية يقع على العلة بضربة حظ، أو ربما يكون بعض الاطباء ممن يملكون تلك الصيدلية ويديرون مدخولاتها، بل لا توصف بعض الادوية الا بعلامات تجارية لا توجد الا بتلك الصيدلية.
إن الخلل الأساس في هذا يعود – كما قلنا- الى الهدف من انخراط أغلب طلبتنا في الدراسة الطبية، وهو الهدف المادي الذي يجعل من الطبيب تاجراً، يتعامل مع ارواح البشر وآلامهم من منطلق تجاري، وبذلك تنمو الازدواجية التي يتعامل بها كثير من أطبائنا مع المرضى بين المستشفى والعيادة الخاصة، فيهمل المريض في الاولى ويهتم به في الثانية.
إن الملامة تقع أولاً على المنظومة التعليمية الفاشلة التي أوصلت الأجيال الى هذه الحال، فالمدارس باتت عبارة عن أماكن لحفظ المعلومات، من دون اهتمام بالجانب التربوي والبناء الشخصي للتلميذ، فلا تخلق المنظومة التعليمية لدى الطالب حس المسؤولية، ولا تظفي على المعلومات التي تملأ ذاكرته بالغاية النبيلة، ولا تنمي لديه حس المسؤولية الوطنية والشرعية تجاه بلده ومجتمعه، وما الدروس الدينية والوطنية والاجتماعية والفنية في مدارسنا إلا قضايا روتينية عفى عليها الزمن، لا يهتم بها التلاميذ الا بمقدار ما يحصلون منها على درجات ترفع معدلاتهم في النتائج النهائية.
الامر الآخر هو في غياب قانون ينظم عمل العيادات الخاصة، فطالما كان للطبيب منفذ آخر للرزق وهو عيادته الخاصة فبالتأكيد سيحاول ان ينجح مشروعه ويزيد من أرباحه على كل المنافسين، دون الالتفات الى مرضاه فالمريض بالنسبة اليه هو زبون، ولا علاقة له به في الاولى لان راتبه جار بكل الاحوال ضمن منظومة إدارية تحتاج الكثير من التأمل والنظر، أما في الثانية فتخضع العيادة لقانون العرض والطلب..
لقد عُرف عن العراق سابقاً بريادته في مهنة الطب، أما اليوم فقد بات العراقي يسافر إلى بلدان أخرى ليعالج داءه المستعصي، ولا يلجأ الى أطباء بلده إلا لضيق ذات اليد، ومالم يشمل الاصلاح الجذري بقضية التعليم التربوي في هذا البلد، وتنظيم عمل العيادات الخاصة للأطباء ستبقى أرواح ملايين المرضى مرهونة بأيدي أطباء الدكاكين..

نشرت في الولاية العدد 97

مقالات ذات صله