الكلمة في الفكر الإسلامي

أ.م.د خليل خلف بشير

إن الفكر الإسلامي -بالرغم من تعدد مدارسه- لا يمتاز بالعمق والشمول والأصالة فحسب بل ويملك القدرة الفائقة على استيعاب التطور والحدوث والاستجابة لكل متطلبات الحياة المتغيرة.
ولما أصبحت الصورة والكاريكاتير والأداء المسرحي -سينما أو مسرح- والأصوات الموسيقية وسائل للتعبير فإن الكلمة كانت وستظل عبر التاريخ الإنساني تحتل مركز الصدارة في مجال التخاطب وترجمة الفكر ونشر الثقافة سواء أكانت هذه الكلمة مسموعة أم مرسومة فهي أداة الإفصاح والتعبير عن الفكرة ووعاء المعنى الكامن في نفس الإنسان فلولا الكلمة ما استطاع الإنسان أن يوصل للآخرين ما يفكر فيه، وما استطاع أن يتفاهم مع الآخرين، ويكوّن حياته الاجتماعية التي استطاع أن يبني كيانها الشامخ.

ولهذا أكد الإسلام أهمية الكلمة ورسم المسار المستقيم الواضح والهدف النافع الصالح لتكون أداة بناء في دنيا الحضارة فإذا كان القرآن الكريم قد قرّر أن القول المعروف والمغفرة خير من صدقة يعقبها أذى في قوله تعالى ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى – البقرة /263) فإن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) يؤكد أنّ ((الكلمة الطيبة صدقة))، وما ذاك إلا لإعطاء الكلمة دوراً حضارياً شامخاً في مجال الأدب والفلسفة والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد ونحوها فضلاً عن مجال التعاون الإنساني والعلاقات الاجتماعية والسلوكية، ولم يكتف الإسلام في الحث على الالتزام بالكلمة المعبرة عن الفكر الرسالي النير فحسب، وإنما كشف مخاطر الفكر المنحل ومساوئ الكلمة الخبيثة التي تهدم القواعد الإنسانية وتفصم عرى العلاقات الاجتماعية، وبذا استطاع الإسلام أن يبني شخصية الإنسان على أسس متينة منيعة تحمل الخير وتتحراه وتكف عن الشر وتتوقاه.
قيمة الكلمة
لقد حدّد القرآن قيمة الكلمة وبيّن أهدافها ورسم الطريق واضحاً أمامنا كي لا تتحول الكلمة الى معول هدم وأداة تخريب فالقرآن يريد من هذا التوجيه أن يجعل الكلمة أداة بناء في صنع الخير وإشاعة الود والمحبة بين الناس ففي قوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ – أبراهيم /24-26) يقارن مقارنة رائعة بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة فيصور لنا الكلمة الطيبة بالشجرة المثمرة الراسخة الأصل والجذور في عمق الأرض والمستطيلة الامتداد والفروع في آفاق السماء راسماً بريشته البيانية المبدعة تصور الإسلام لأهداف الكلمة ،وتفسيره لسبب وجودها وطبيعة الآثار والنتائج الإيجابية التي يمكن أن تتركها في حياة الإنسان فالقرآن يريد أن يجعل من الكلمة مصدراً للخير والعطاء والإصلاح، تملأ دنيا الإنسان وتترسخ في أعماق الحياة؛ ليتذوق الناس طعمها وتستريح النفوس الى سماعها وتبنى الحياة بوحي من هداها فالكلمة الطيبة تقع في نفس الضال فتهديه ،والمحزون فتسليه ،والخائف فتطمئنه، والفاسد فتصلحه، والجاهل فتعلمه، والغضبان فتهدئه، والعدو البعيد فتقربه.
الاستعمال الايجابي
إننا عندما نحسن استعمال هذه الكلمة نستطيع أن نؤثر في نفس الإنسان المخاطب بها أكثر مما تؤثر وسائل وأساليب كثيرة أخرى ؛لذا راح القرآن يوجهنا كي نحسن استعمال الكلمة، ونتقن استخدامها في نشر الدعوة وإصلاح المجتمع، وإشاعة روح الأخوة والمحبة بين أفراد النوع الإنساني؛ لذا راح يرسم لنا أبرز معالم الاستعمال الإيجابي البناء للقول والكلمة فيركزها بأقواله النيرة :
( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ – الحجر /85)
( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ – الزخرف/89)
( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ – فاطر /10)
( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً – البقرة /83)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا – الأحزاب/70)
( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً – النساء/63)
(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا – النساء/114).. فأهداف الكلمة في منطق القرآن إذن هي نشر الإصلاح والخير والمعروف والسلام والإحسان بين الناس؛ لأن للكلمة الطيبة أثراً فريداً على شخصية المتلقي لها والمخاطَب بها فلهذه الكلمة القدرة على الإشباع العاطفي البنّاء والمساهمة الفعّالة في تنمية الإحساس الجمالي بالحياة فضلاً عن قدرتها على القيادة الفكرية السليمة والبناء السلوكي والاجتماعي القويم.

صنّاع الكلمة
والقرآن بحديثه يرسم للإنسان بصورة عامة ولصنّاع الكلمة من الأدباء والمفكرين والكتّاب والخطباء والعلماء والشعراء والداعين الى الإسلام والإصلاح بصورة خاصة يرسم لهم كيفية استعمال الكلمة، وأسلوب استخدامها، والأهداف الطبيعية التي وجدت من أجلها.
والقرآن حينما يتحدث عن أسلوب استعمال الكلمة ويوضح أهداف استعمالها ،إنما يلاحظ جانبين اثنين في هذه القضية الحساسة في حياة الإنسان هما:
1. الهدف الطبيعي الذي خلقت من أجله الكلمة.
2. أثر الكلمة النفسي والفكري على الطرف المتلقي والمتعامل معها.
وعلى النقيض من ذلك كرّست الحضارة الغربية المعاصرة جهودها المالية والفنية والبشرية الضخمة لتبني أجهزة الدعاية والإعلام التي تخدم أهدافها وتحقق أغراضها فسخّرت الخطباء والأدباء والفلاسفة والمفكرين والخبراء والعلماء والرأي العام والإعلام والصحافة لهذه المهمة، وأصبح للكلمة والفكرة والدعاية خبراء ومهندسون وأجهزة ومؤسسات ووزارات تخطط للكلمة والفكرة وتشرف على صناعتها وأسلوب إيصالها المؤثر ،وقد استطاعت هذه الجهود الضخمة المُخَططة أن تغزو نفس الإنسان وعقله مستهدفةً نشر الكلمة الخبيثة والتحلل والفساد واستعباد الإنسان في أغلب الأحيان ؛لذا كان لزاماً علينا إذا ما أردنا للكلمة الطيبة البنّاءة أن تحتل موقعها المؤثر في نفس الإنسان ،وأن تجتث الكلمة الخبيثة من أعماقه ،أن نخطط بوعي وخبرة لاستعمال الكلمة وتوصيل الفكرة لمجابهة الحرب الفكرية والدعائية التي يوجهها أعداء الإنسان والإنسانية.

الكلمة الخبيثة
والقرآن الكريم حينما تحدث عن الكلمة الطيبة وشبهها بالشجرة الطيبة يكون قد بيّن أثرها وقيمتها في حياة الإنسان، وبالمقابل تحدّث عن الكلمة الخبيثة وشبهها بالشجرة الخبيثة التي لا يجني الناس منها إلا الأشواك والثمرة المرّة والحصاد الأثيم، وهذه الكلمة الهدّامة التي تعبث بالحياة والفكر والمشاعر هي التي تحدث عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخّص دورها وأثرها المخرّب العابث في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( يعذِّب الله اللّسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح فيقول : أي ربّ عذَّبني بعذاب لم تعذِّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدَّم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها الفرح الحرام، وعزّتي [ وجلالي ] لأعذِّبنّك بعذاب لا أُعذِّب به شيئاً من جوارحك )).
فهذه الكلمة الخبيثة هي التي يسعى الإسلام لاجتثاث جذورها وقلع أصولها ودوافعها النفسية والفكرية لدى الإنسان، إذ ما من كلمة ينطق بها الإنسان إلا ولها جذور فكرية ونفسية تسهم في صنعها وإخراجها ؛لذا كانت عناية الإسلام بالغة في إيجاد الوعي والتعريف بخطورة الاستعمال المنحرف والشاذ فقد قام بالتوعية والتوجيه والتعريف بشخصية صانع الكلمة والربط بينها وبين حقيقة الشخصية بوصف الكلمة حقيقة تعبّر عن الواقع النفسي والفكري لدى أصحابها، وتجسّد صورة المحتوى الباطن لصانعها فالكلمة نافذة مفتوحة يمكن النظر من خلالها الى عالم الإنسان الغامض المطوي فما أروع مقالة أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (( تكلّموا تعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه))، وكذا قوله (عليه السلام): ((واجعلوا اللسان واحدا . وليخزن الرجل لسانه. فإن هذا اللسان جموح بصاحبه. والله ما أرى عبدا يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه، وإن لسان المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق من وراء لسانه. لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيرا أبداه، وإن كان شرا واراه. وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وما ذا عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»)).
ومثل هذا التشخيص الدقيق الواضح جاء أيضاً في قول الإمام الصادق (عليه السلام) بوصفه للعلاقة والرابطة بين الكلمة والشخصية حين قال:((لايزال العبد المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً )).

نشرت في الولاية العدد 98

مقالات ذات صله