عبود غفلة جبل من شعر

مما لا شك فيه ان الترحال عبر الازمنة الماضية شاق جدا خاصة اذا كنت تريد ان تتلمس المواقع الابداعية داخل زوايا النجف المشبعة بالحضارة والعلم، هذه الرحلة ومهما احضرت لها من الامتعة والزاد التي تعتقد انها كافية فانك ولا شك لا تصيب كبد الحقيقة كما يعبرون ولأسباب كثيرة لا نود التطرق اليها حتى لا يطول بنا المقام ، وهذا ما حدث لي حين كلفت بكتابة بعض الوريقات عن الشاعر المرحوم عبود غفلة ..

وها آنذا وانا اكتب عنه يطالعني شيخ كبير لم تعبث به السنين الطوال، قامته كرخام المعابد الرومانية ، يشد في وسطه حزام الابداع، يتهدج صوته بكلمات البداوة الاصيلة القادمة من عمق صحراء الزمن الجميل، اراه اطول سارية بين اقرانه، وهو ينزف لوعة وحرارة تسيل على خديه مواكب دموع يخيل اليّ انه لا زال يمشي بين ازقة النجف ولا تزال هذه الازقة معتادة على مروره بين جنباتها كل يوم لتستنشق عطر اخلاصه، ورغم انه عاش ثمانين سنة امتدت بين عام 1856 حتى عام 1936 لا زال عبود غفلة ذلك الفارس الذي لم يرتجل عن صهوة جواده، جواد القافية الملهبة.
ايقاع شاعريته وشكلها
ولا زال عبود غفلة في قلب الحدث وهو اليوم هنا الحدث نفسه سأحاول في هذه العجالة ان اتناول امرين فقط لطالما استوقفاني عندما اقرأ شعر عبود غفلة: الامر الاول : يتعلق بالشكل الشعري او التشكيل الحرفي والصوتي الذي اتخذه عبود غفلة في نظم قصائده فقد كان يتمتع حسب ما اعتقد بأذن موسيقية غاية في الرهافة اثرت بشكل واضح وكبير في نظمه فظهر شعره في اكثر الاحيان مملوءً بكمية كافية من الموسيقى الداخلية تجلّت في ان الحروف الداخلية للكلمات كانت مخارج مبتعدة عن بعضها البعض وهذا كما هو معروف يسهل عملية نطق الكلمات دون تلكؤ وتعقيد كما يسهل عملية حفظ الشعر وسهولة تلحينه من قبل المنشدين حتى انه كثر من حروف المد في نهايات الاشطر الشعرية بصورة ملفتة للانتباه كما في الموشح الذي نظمه الشاعر عبود غفلة في مسير الامام الحسين (عليه السلام):
ما غزه الدنيه اوربع مسكونها                       مثل ابو اليمه وفتك بحصونها
حين شاف الدين اشرف على الممات           والشرف بين الشفه والعاذرات
الديانه دونها لثم الحياة                             وادرك العز لو متت ما دونها
وكما جاء ايضا في موشح اخر هو الوزن الغالب على شعره وهو يرثي الامام الحسين (عليه السلام):
يا حريب الحرب دار ارحاتها                        مثل ابو اليمه او هو بلهواتها
يمن كَلب الموت من باسك يريب                العلل هالدين ما غيرك طبيب
للحرب زميت رايه يا حريب                         زمّها مثلك على العده اوراياتها
هذا مثلان فقط نكتفي بهما والاّ فان شعره يزخر بمثلها في مواضيع كثيرة ونستنشق من خلال الابيات المتقدمة الذكر ان الشاعر عبود غفلة كان يعتني كثيرا بالحروف المتناسقة وحروف المد التي ركز على ذكرها وايرادها في ابياته الشعرية لما لهذه الحروف من تأثير موسيقي واضح في ذهن الملتقي واحسب ان الشاعر عبود غفلة لم يكن متعمدا ولا متكلفا بهذا الاسلوب انما هي الفطرة والسجية الشعرية التي درج عليها وهذا ما يحسب له لا عليه ، ولا بد من الاشارة ايضا للمجانسة الصوتية بين الحروف عموما داخل البيت الشعري الواحد التي منحته قوة وسباكة في التعبير ويعد هذا من مواهب الشاعر عبود غفله الابداعية وهو القائل:
الكَلب بيده على جفك وانت رامه                  وعجب هو يرومك وانت رامه
بهي الله نتكَابل وانت رامه                           بصخر والفشختين تصير بيه
الك مرعى بدليلي وانته رامه                        وهو رامك يولفي وانته رامه
يهي الله نتكَابل وانته رامه                            بحجر والطكتين تطيح بيه
مهدويات شاعر منتظر
اما فيما يتعلق بالامر الثاني الذي اود الاشارة اليه هو شدة تعلقه والتصاقه بالامام المهدي (عج) والذي ظهر واضحا في شعره على شكل عتاب مرٍ تارة وندبة محرقة تارة اخرى واني لأحس ان الشاعر المرحوم عبود غفلة كان يتحين الفرص ليندب الامام (عج) وبكل مناسبة ما اوتي لذلك سبيلا فها هو الشاعر عبود غفلة يندب الامام المهدي (عج) في ذكرى استشهاد السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فيقول:
امك الزهره يتالي اشبالها                       خابرا بما صار واجره ابحالها
والتريده ايصير مابين الديار                       سدر واتكاثر يبو صالح الثار
شمّر الثارك اوسل ذات الفقار                  اوشد اعلى الدنيه وعلى اضمحلالها
تأمل معي عزيزي المستمع للشاعر عبود غفله وهو يستثمر ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة (عليها السلام) ليندب صاحب العصر والزمان ارواحنا فداه ويتكرر هذا المشهد كثيرا في شعر عبود غفلة فنذكر منها موشح اخر يرى به الامام الحسين (عليه السلام) يندب الامام ويعاقبه باسلوب قد لا يستسغيه الكثير منا فيقول:
نام بالغيبه يضيغم يضرغام                    وعالهضم والضيم ماواجب تنام
مضمحله اصبحت عادات الاسلام           والطبيعة احتيت عاداتها
على الله اودين الاسلام السلام            والبكَه ابروس اليعبدون الاصنام
عاد للوادم عصر نور وعزام                    او حور عين او سافره بجناتها
نعم هذا هو الشاعر عبود غفلة وهذه طريقته في ندبة الامام المهدي (عج) وعتابه وهي طريقة لا شك قد تحمل احيانا بعض الاخطاء العقائدية والتي من المؤكد ان الشاعر لم يتعمدها وانما تكلم وكتب وعبّر بما يشعر فيه داخل وجدانه وسريرته دون رياء او تكلف ، فرؤية الظلم والفساد المستشري في المجتمع تجعل الانسان يتعلق بالمنقذ الاكبر والمصلح الاعظم لانتشاله من واقعه المرير فالهدف اذن صحيح والغاية سامية وان اصابها بعض الخطأ والتقصير في التعبير ووسائل الايصال ومنها الشعر طبعا وكل هذا من المؤكد يرجع الى طريقة الفهم والتعاطي مع القضية المهدوية والتي لا ندرك من اسرارها الشيء الكثير..
وفي الختام أؤكد ان الشاعر عبود غفلة سيبقى رقما صعبا في المعادلة الشعرية النجفية مع الاعتذار ان لم توف هذه الوريقات حق الشاعر الكبير عبود غفلة ..

نشرت في الولاية العدد

مقالات ذات صله