(فَتَبَيَّنُوا) مَنْهَجٌ و سُلُوكٌ

مرتضى علي الحلّي

لَم يَكُن القُرَآنُ الكَريمُ ليَترِكَ الإنسَانَ بَعدَمَا خَلَقَه, عَبَثَاً, دونَ أنْ يُبيِّنَ لَه الحَقِّ, مَفهومَاً وطَريقَاً, بِمَعَالِمَه, ووَسَائِلَه, وِمِنهَا مَحَلُّ البَحثِ, والقَصدِ, وهي مَقولَةُ أو ثَقَافَةُ (فَتَبَيَّنُوا), التي تَعني استبيَانَ الأشيَاءِ والأمُورِ, حَالَ التَعَاطِي مَعَهَا, والتَمييزُ لِمَا يُتَلَقّى مِنْ الأخبَارِ والأفكَارِ والثَقَافَاتِ, حتى العَقَائد, والتَثبُتَ منها, في التَبَني والقَرارِ والفِعلِ, وقد كَرّرَهَا القُرآنُ الكريمُ, ثَلاثَ مَرّاتٍ, مَرّةٌ في آيَةٍ, وَمَرّتان في آيَةٍ أُخرَى لِمَزيِدِ تأكيدٍ في تَأسِيسِ مُنتَظَمِ حَرَاكِ الإنسَانِ المُؤِمِنِ, بـ(فَتَبَيَّنُوا) طِبقَ الوِجهَةِ القويمَةِ, شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا, في نَفسهِ ومُجتَمَعِه, ومَا يَتَكَفّلُ بذلك, مِنْ تَأمينٍ لِسنخِ التَعَاطِي السَليمِ, والتَلَقي, والحُكمِ, والآثارِ, والعلاقَاتِ مع الآخرِ, وتَنقيحِ الأخذِ مِنْ الأفرادِ أو الجِهَاتِ, والقبولِ والاقتِفَاءِ, وتَقريراً لِلحُكمِ الإرشادي, عَقلاً, وغَرَضاً, في ضَرورَةِ التَبيِّنِ والتّثَبتِ, والذي يَدركَه العُقَلاءُ في سلوكِهم وتَعَاملِهم, ويَأخذونَ به, بِنَاءً, ودَافِعاً وخياراً, كَمَا في قَولِه تَعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))(الحجرات:6),((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))( النساء: 94). ومّا يلفِتُ النَظَرَ, في صيَاغةِ مُفرّدةِ (فَتَبَيَّنُوا) هو صَوغُها بلِسَانِ المَجموعِ, وللمؤمنين, مِمَا يُحَمِّلنَا, مَسؤوليّةً شرعيّةً وعُقلائيّةً, في المَوقفِ والتطبيقِ والآثارِ، فَضلاً عن أنَّ المُتَبيَّنَ مِنه, هُنَا, قد يكون في أكثره، ما يُشَكّلُ الظّاهِرَةَ البَارِزَةَ في تَأثيرِهَا الأكبَرِ، لو أُخِذَ بِه، دون التَثَبتِ والتَبيِّنِ مِنْ أوَّلِ الأمرِ, كالأخذِ بخبرِ الفَاسقِ وتَلَقيه, والعَمَلِ به,(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) دونَ التبيِّنِ بكونه ثِقَةً، وما يَتبَعُ ذلك مِنْ ظلمٍ لحقوقِ الآخرين في أنفسِهم أو أموالِهم أو أحوالِهم أو شؤونِهم الأُخرَى, (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ), مَمَا يَعني لِسَانُ المَجموعِ, صِيَاغةً وخِطَابَاً, أنّ حَرَاكَ (فَتَبَيَّنُوا), غالباً مَا يَكونُ في الإطَارِ العَامِ والمُطلَقِ, الذي يَحكُمُ في نِظَامِه نَوعَاً, الفَردَ والمُجتمَعَ مَعَاً, وبتَرَابطٍ وَثيقٍ في الأثرِ والغَايَةِ.

أ- مَفهومُ ودلالةُ (فَتَبَيَّنُوا):
تَبَيَّنَ الشَيءُ: ظَهَر، والتَّبْيينُ أَيضَاً: الوُضوحُ, ويُقَالُ: تبَيَّنْتُ الأَمرَ, أَي تأَمَّلته وتوسَّمْتُه(1).
ولِمَادَةِ التَبيِّنِ مَعنَيَان, الأوّلُ: بمعنى الظُهور، فيكونُ فِعلُها لازِمَاً، فنقولُ: تَبيّنَ الشَيءُ, إذا ظَهرَ وبَانَ, ومنه قوله تعالى:((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) البقرة, وقوله,((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))( فصلت: 53) ، والثاني: بمعنى الظُهور عَليه – يعني العِلم به, واستكشافه، أو التَصَدّي للعِلمِ به وطَلَبه – فيكونُ فِعلُها مُتَعَديّاً، فَتَقولُ: تَبَيّنتُ الشَيءَ, إذا عَلِمتَه، أو إذا تَصَدّيتَ لِلعِلم به وطَلَبته, وعَلَى المَعنى الثَاني للتَبَيِّنِ – وهو التَصَدّي لِلعِلمِ به – يَتَضَمّنُ مَعنى التَثبُت فيه, والتأني فيه, لِكَشفِه وإظهَارِه والعِلمِ به, ومنه قوله تعالى, في سورة النساء,((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا))(94), ومِنْ أجلِ هذا, قُرِئَ بَدلُ, فَتَبَيَّنُوا: فتَثبتوا, وكذلك آيةُ,((إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)) قُرِئَ فيها, فتَثبتوا, فإنَّ هذه القِرَاءَةَ مِمَا تَدلُ على أنَّ المَعنيين – وهُمَا التَبيِّنُ والتَثَبتُ – مُتقاربان(2) فَمَن قَرَأَ بالثَاءِ مِنْ الثبوتِ(فتَثبتوا), فإنما أرادَ التَثَبُتَ, الذي هو خِلافَ العَجَلَةِ.
ومَنْ قَرَأَ باليَاءِ والنونِ (فَتَبَيَّنُوا)، أرادَ مِنْ التَبِيينِ الذي هو النَظَرَ، والكَشفَ عنه, حتى يَصحَ, والمَعنَيَان مُتقاربَان، لأنّ المُثبَتَ مُتبيَّنٌ، والمُتبيَّنَ مُثبَتٌ(3), والتَبَيُّنُ هو التَمييزُ(4).
وبالنِسبَةِ لدلالةِ التَبيِّنِ في الأمرِ الإرشادي في (فَتَبَيَّنُوا)، بلِحاظِ التعاطي مَعَ نَبَأِ الفَاسِقِ, (فَردَاً أو جِهَةً أو عِنوَانَاً), فتعني: (فَتَبَيَّنُوا)، صِدقَه مِنْ كِذبَه، ولا تبادروا إلى العَمَلِ بِخَبَرِه. ومَنْ قَالَ (فتَثَبّتوا), فمعناه: توقفوا فيه, وتأنوا حتى يَثبُتَ عندكم حقيقته, لئِلاّ, أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ, وحَذَرَاً مِنْ أنْ تُصيبوا قومَاً في أنفسِهم, وأموالِهم بغيرِ عِلمٍ بحالِهم، وما هم عليه مِنْ الطاعةِ والإسلامِ, فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ, مِنْ إصابتهم بالخَطأِ, الذي, لا يُمكنكم تداركه(5).
وتَعني أيضَاً, مَقولَةُ أو ثَقَافَةُ (فَتَبَيَّنُوا)، بلِحَاظِ التعاطي مَعَ نَبَأِ الفَاسِقِ, فَتَبَيَّنُوا خَبَرَه بالبَحثِ والفَحصِ, للوقوفِ عَلَى حقيقتِه, حَذَرَ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ, وقد أمَضَى اللهُ سبحانه في هذه الآية, آيةِ النَبَأِ, أصلَ العَمَلِ بالخَبَرِ وهو مِنْ الأصولِ العُقلائيّةِ, التي يَبتني عليه أسَاسُ الحياةِ الاجتمَاعيّةِ و الانسَانيّةِ، وأمَرَ بالتَبيِّنِ في خَبَرِ الفاسِقِ(6).
وأمّا بالنِسبَةِ لِمَقولةِ أو ثَقَافَةُ (فَتَبَيَّنُوا), بِلحَاظِ, إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, والضَربُ, هُنا, كِنَايةٌ عَنْ السَفرِ أو الخروجِ أو الجِهَادِ في سبيلِ اللهِ تعالى, فَتَعني التَثبُتَ والاستبيانَ في الأمُور المُشتبَهةِ, حَالَ التعاطي معها, وخَاصَةً فيما يَتَعَلّقُ بعَقيدةِ الإنسَانِ في الظّاهرِ, فليس مِنْ الصَحيحِ تَكفيرُ المُسلِمِ ولو شَهدَ بالإسلامَ بلسانِه, وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا, فإنَّ التَثبُتَ في مِثلِ هذه الأمُورِ أمرٌ واجبٌ عَقلاً وشَرعاً, ولا يَنبَغي الاستعجَالُ فيه, دون إعمَالِ ثقافةِ وسلوكِ (فَتَبَيَّنُوا) و قبل أن يَتَبيّنَ الحَالُ واقعَاً.
ولِمَا يَستَتبعُ نتيجةَ ذلك مِنْ إضرارٍ بالآخرين, وتَعَدٍ عليهم. وعلى هذا ينبغي بالإنسَانِ المُؤمنِ والمُسلِّمِ أنْ يَجتنبَ ثقافةَ وسُلُوكَ التكفيرِ لأخيه المُسلِّمِ, وبدوافعٍ عَقيديةٍ, ونفسيّةٍ, بعيدةٍ عن الحَقِّ والواقعِ والتَبيِّنِ والتَثبُتِ والمَسؤوليّةِ, وأنْ يحذرَ اللهَ تعالى في ذلك, و يَستَشعِرَ رَقَابَتَه عليه.

ب- مُعطياتُ ثَقَافَةِ (فَتَبَيَّنُوا) شَرعيّاً واجتمَاعيّاً:
1 – النَهي الشَرعي عَنْ العَمَلِ بخبرِ الفَاسِقِ,(فَردَاً أو جِهَةً أو عِنوَانَاً), و عَدَمُ اعتبَارِ حُجيَته, وهذا النَهيُّ, كالإمضَاءِ لِمَا بَنى عليه العُقلاءُ مِنْ عدمِ حُجيّةِ الخبرِ, الذي لا يُوثَقُ بِمَنْ يَخبرُ به وعدمِ تَرتيبِ الأثَرِ على خَبَرِه. وذلك لأنَّ حَيَاةَ الإنسَانِ, حياةٌ عِلمِيّةٌ, قَائِمَةٌ, على ما يُشَاهِده مِنْ الخَيرِ والشّرِ والنافعِ والضَارِ, والرأيِّ الذي يَأخذ به فيه، ولا يَتيسرُ له ذلك, إلاّ فيما هو بِمَرأى منه ومَشهَدِ، ومَا غَابَ عنه, مِمَا تتَعَلّقُ به حياته ومَعاشه, أكثرُ مِمَا يَحضرَه, فاضطرَّ إلى تتميمِ ما عنده مِنْ العِلمِ, بما هو عند غيره, مِنْ العِلمِ الحَاصِلِ بالمُشاهَدِةِ والنَظَرِ، ولا طريقَ إليه إلا السَمعُ وهو الخَبرُ, فالركونُ إلى الخَبَرِ, بمعنى ترتيبِ الأثرِ عليه, عَمَلاً ومُعامَلةً, مضمونه مُعاملةُ العِلمِ الحَاصِلِ للإنسانِ, مِنْ طريقِ المُشاهدةِ والنَظَرِ في الجملةِ, مما يتوقفُ عليه حَيَاةُ الإنسَانِ الاجتمَاعيّةِ, تَوقفاً ابتدائياً، وعليه بناءُ العُقَلاءِ ومَدارُ العَمَلِ(7).
2 – عَدَمُ صَحَةِ التَلَقي والشَرعي و الثَقَافي والاجتمَاعِي والفِكري مِنْ الفَاسِقِ, مَفهومَاً ومِصدَاقاً, (فَردَاً أو جِهَةً أو عِنوَانَاً), ولِزَامُ التَثَبُتِ والتَبيِّنِ, حَالَ التعاطي معه, والتحققُ مِمَا يُقدّمُ مِنْ أخبَارٍ أو أفكَارٍ, أو ثقافاتٍ أو أحكَامٍ وغيرها, وعدمُ العَجلَةِ في قبولِها أو الأَخذِ بها, قَنَاعةً أو سلوكاً. وذلك لأنَّ الفَاسِقَ هو خَارِجٌ في نفسه, عن طاعةِ اللهِ تعالى, فلا يُؤمَنُ مَعه, ويَنبَغي الحّذرُ منه,((أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ)) (السجدة: 18).
3- إنَّ إعمَالَ ِمَقولةِ أو ثَقَافَةِ (فَتَبَيَّنُوا) في حَرَاكِ الإنسانِ العَامِ في نوعِه الاجتمَاعي ونِظَامِه الحَيَاتي, هو السَبيلُ الحَقُّ, لبنَاءِ شَخصيّةِ الفَردِ وأنمَاطِ تَعَايشِه في مُجتمًعه, مِن حيث التَعاطي والتَدَافِعِ والاحتيَاجِ, والتَعَايشِ, على أسَاسٍ وَاضِحٍ وبَيِّنٍ وثَابِتٍ, يَكفلُ حَقّه وحُقوقَ غيره, ويَدفَعُ عنه الإضرَارَ به, فلا أخذٌ كيفيٌّ ولا قبولٌ دونَ وعِيٍ, للظّواهرِ أو الثقافاتِ ولا تَكفيرٌ للآخرِ, مع إعمَالِ هذا المَنهَجِ القُرآني القَويمِ (فَتَبَيَّنُوا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لسانُ العرب , ابن مَنظور , مادةُ ,بين.
2- أصولُ الفِقهِ , الشيخ محمد رضا المُظَفّر ,ج2,ص58,ط1,قم.
3- التبيانُ في تفسيرِ القُرآنِ , الشَيخُ الطوسي,ج3,ص297.
4- الميزان في تفسير القرآن ,السيد الطباطبائي,ج5,ص41.
5- مَجمعُ البيانِ , الشيخ الطبرسي ,ج9,ص221,ط1,بيروت.
6- الميزان في تفسير القرآن ,السيد الطباطبائي,ج18,ص312.
7- الميزان في تفسير القرآن ,السيد الطباطبائي,ج18,ص312.

نشرت في الولاية العدد 99

مقالات ذات صله