كلمة في اهل البيت

إن كلمتي الطويلة ــ وأقصد كلمة العمر ــ حصرتها، بنوع من التخصيص، بأهل البيت ــ وإني اتباهى بدون تحفظ، بأن الكلمة هذه، ما كان لها أن تسلس إلى قلمي، أو ان تطيب لها حروف، أو تتناغم مفاصل، لولا أني ما رششت عليها رذاذاً كنت أتلفظ به ناضجاً من جوهر النفس الأصلية التي كان يتطيَّب بمعدنها أهل البيت !!! وهكذا كان لي أن أربط مجهودي الكتابي ــ على مدىً يتجاوز الستين من عمري ــ بتخصيص كل وليّ من أولياء أهل البيت بسيرةٍ تقييمية؛ ويكفيني الآن عرضها في عناوينها، متسلسلة هكذا:
الامام علي نبراس ومتراس .
فاطمة الزهراء وتر في غمد .
محمد شاطئ وسحاب .
الامام الحسن الكوثر المهدور .
الامام الحسين في حلة البرفير .
الامام زين العابدين عنقود مرصَّع .
الامام الباقر نجي الرسول .
الامام جعفر الصادق ضمير المعادلات .
من أول عمل قمت به أن الامام علي هو الركيزة الاولى ــ بعد النبي العظيم ــ في تأسيس الرسالة وتوجيهها التوجيه الذي تهذبت به أوصال الجزيرة، وانطبعت بمنهاجها أعطاف هذا الشرق الوسيع، وترابطت به حقاً وديناً .
إنه القرآن الكريم ــ نطق به ابن عم الرسول، فكان حرفاً من حروفه الكبرى . في كل آية هبطت في أفق نفسه، تلبية لوحي عبقري تجلبب به النبي الكريم، فكان سناءه في بثه الرسالي ــ هذا البطل المرجَّى ــ ما رزمته اليه إلا أخوة مشقوقة في ذاتية المعدن، وجد فيها الرسول كل مفاعل الإقدام، وهي التي تحققت بها وجدانية الإسلام، واندحرت أمامه المخاوف والأراجيف، وتوطد الإسلام .
اثنان هما في الروعة الاولى:
رسول يلملم ذاته إلى كلمة سواء ينحت لها حروف التنزيل،
وشقيق روح معوان، يلفلف ذاته في أذن نجية، يقعِّرها إصغاءً بتول !!!
أما البيت الذي سيتم فيه: الالتحام ــ والالتزام ــ والاندغام … فإن في زاوية منه كانت تنام فتاة صغيرة ــ كأنها زهرة سوسن ــ وعلى ثغرها المندّى ترنيم أهزوجة … ولن يتفتّق البرعم إلا عن عبق سمّاها به أبوها … إنها الزهراء ــ ولن يقبل النبي الحبيب إلا بأن يربطها بعلي، ليكون للغد الآتي تصميم بنيويّ تعمر به الخلية التي راح يبدو أنها بداية انطلاقية لرسالة أنموذجية ستلتف بها الجزيرة الأم وتتجوهر:
هل هو الحلم؟ ولكنه الرغبة الهابطة من عليائها الروحية، وليس لها الا العزم المتين يجعل الحلم دافعاً إنسانياً حياً !!!
لم يمر إلا وقت قصير، ودَرَجَ في البيت الحسنان عليهما السلام ــ حسن وحسين عليهما السلام ــ في ظل أبوين رهيفين ــ فاطمة وعلي ــ وفي كنف رسالي ضم الشطآن إلى رحابه: شطآن الأرض، وشطآن السماء …
وهكذا ارتضى الرسول صلى الله عليه واله بتأليف الخلية التي سيوكل اليها توضيب الغد برسالة بهية … لا لتنهض بها الأم الجزيرة ــ وحسب ــ بل لتكون قدوة من القدوات الكريمة، لكل أمة من أمم الأرض !!!
دائماً هو الحلم المركز على خيال هابط من جدار سامق !!! ودائماً هو المبني عند الرسول على عزم مصمم: كان ــ ابداً ــ يريد الأمة، أن لا تتردد في اعتناقه، وتنفيذه، مستنزلاً عليها رضوان الله حتى تطيع وتفعل !!!
أما أهل بيته عليهم السلام، فإنهم ألآن تحت ظل عينيه، وضمن جدران بيته: سيطيبهم من كل رجس، وسيجهزهم بكل رضوان، وسيمسهم بكل يقين، وبكل حق، وبكل مران … يكفيهم ان علياً عليه السلام حرف من الحروف الكبيرة التي انخطّت بها سور القرآن … ويكفي الأمة أنها بدأت تقلب صفحات الكتاب الذي هو لها الآن، وما عليها غير أن تستعين دائماً بمن يشرح لها المعاني النازلة في هيكلية المباني، فتستنير أشواقها النائمة في حقيقة الوجدان .
ويتابع النبي العظيم قول اليقين: علي هو النبراس والمتراس، وهو ركيزة الحق، وركيزة الفهم، وركيزة التبيان … فإذا، رَبَطْتَه بالأمة فلكي تستنير به في تجوالها الصاعد ــ فلا يهددها ارتداد مخيف إلى هذيان ينسيها أنها ابتدأت تمشي الطريق !!!
وطريق الأمة ــ إنما هو دائماً بحاجة إلى أقدام متينة، تعرف كيف تمشيه بصدق ووعي متلازمين، وإلا، فإن الجهل والعي متلازمان آخران يملآن الطريق بوعورة الشوك، وبلاهة الهذيان !!!
وهكذا جاءت التوصية تناشد الأمة بأن تتعلق ــ أبداً ــ بأهل بيته الأمناء والمدربين عليهم السلام على صحة المسير، لأمهم سيكونون ــ بحكم مرانهم الطويل والجليل ــ وبفضل سجاياهم الأصلية والنبيلة أصدق من يقود السفينة إلى وصولٍ تحتاجه الأمة إلى ميناء أمين!! فليكونوا الآن ــ من بعده ــ قلة رباعية إلا أنهم ــ من يوم إلى يوم ــ سينمون ويملؤون الحوض وهم يصونونه !
سيكون لنا أن نحس نموّ الخط بعد استشهاد الحسين بأولياء ثلاثة: وحدتهم الإمامة في نهج واحد، وها إذن الأمة التي وحدها القرآن الكريم سيعمل على تمزيقها عدم فهمها تفسير القرآن، ما لم يحررها العلم الوسيع إلى ثقافات منيعة، تمحو الجهل من عينيها، وتحقق صدق الفهم وصدق القراءة!
إن الإمامة المثلثة تلك هي إمامة زين العابدين، المغرق عينيه بالدمع الحزين، والمستنجد بابنه الباقر، والمستمر بحفيده جعفر الصادق ــ وثلاثتهم انكبوا على تأسيس أكبر جامعة علمية في يثرب، لم يتمتع بموسوعيتها عصرنا الحاضر ــ ولم يستدعهم إلى تنميقها وتوسيعها بالعلوم إلا إصابتهم بالحكم على أمة ستنحذف من الوجود، إذا بقي الجهل والعي ضاربين فيها كل الأوتاد !!!
وعلى مجال ما يقارب مئة سنة، أصبحت جامعة يثرب أكبر منتدى علمي ثقافي . يجول فيه أكثر من أربعة الآف أستاذ، في العلم، والفقه، والفلسفة، والطب، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم الرياضية، والهندسية، والفيزيائية، وتلك التي هي أم المعادلات، والتحويلات، والانبثاقات … واسمها علم الكيمياء بكل ما تتمتع به من عناصر الخلق والإبداع … يكفيها أنها أنجبت جابر بن حيّان .
هذا هو حظ اهل البيت: ابتدأ بخمسة، وراح ينمو رغم كل العراقيل التي زرعها الجهل المزمن في دربه، فأصابته بما يشبه الشلل .
لسنا نحن الآن في مجال أن نحاكم أمة كيف أنها لم تعرف بعد كيف تتلمس ذاتها فتنجيها من كثرة الإرهاق !!! إنما نحن في مفرق آخر نتعلق به طلباً لجلوة قيمة لا يزال يعيش بها ــ حتى اليوم ــ اهل البيت.
وأهل البيت ــ بعد خمسة عشر قرناً ــ لم يلبثوا خمسة . كما تعهدهم حدس الرسول لقد أصبحوا آلافاً عديدة في عهد الإمامة الزين عابدينية، وأصبحوا في الجامعة الجعفرية مصابيح علم . ومعادلات جوهرية ــ وكذلك قد أصبحوا في الأمة كلها خفقات فهم، وأفئدة تنبض خلف الضلوع .
من هنا أن أهل البيت هم خبيئة في كنه النبي الكريم مليئة بالصفات وبالمكارم، وليست إلا بها تبنى أمم الأرض وكل مجتمعاتهم ولا معنى للإنسان إلا بها يبني وجوده، واستمراره، ورفاهه، وصدقه، وجنانه، وخلوده!!! فليكن لنا من العلم الصحيح، والصدق النصيح، والخلق الراجح ما نلون به اشواقنا، ونتمم به رجاء الرسول الكريم في تخليص مجتمعنا الواسع من وهن يستبد بنا ولن ينجينا منه إلا روعة الإصغاء .
وأخيراً أيها البيت الباقي لنا شامخاً فوق مقالب الدهر ــ لا لأنك طالبي هاشمي، بل لأنك تركيز مناقبي أرادك الولي المتبصر بالحقائق الكبرى، أن تكون إرثاً وحرزاً في تعهد أمة مستردّة من غيبوبة الزمان إلى ملء المكان بحقيقة الإنسان . وهكذا تمَّ له أن غمرك بقلبه ووجدانه، لأنك من ذاتية صلبة، وحقيقة رضوانه، ومن حركية شوقه، ودائرة إيمانه . ولأنت بالذات ــ ايها البيت الكريم ــ مدى القابلية ــ فالبث هكذا يا ابن الغد المنتظر إلى أن تتحسسك الأمة المتحركة بوعيها البطيء فتستعين بك طاهراً من كل رجس ــ ومطيباً بكل رضوان ــ وتبني تكاملها بمكرماتك الحسان.

سليمان كتاني
مقال نشرته مجلة العرفان الصيداوية في العددان 9، 10من المجلد الثمانين

نشرت في الولاية العدد 99

مقالات ذات صله