حديث الذاكرة.. في رحاب مسجد الخضراء

من المساجد المهمة والتاريخية في مدينة النجف الاشرف التي كان لها دور متميز حيث الموقع الفريد والوقائع المتسارعة التي شهدها انه مسجد الخضراء او كما يسميه اهل المدينة مسجد الخضرة، ومن اجل ان نقلب الذكريات وتستنطق التاريخ لمعرفة احوال هذا المسجد يجب ان نعرف بأن كثيرا ما يرتبط اسم هذا المسجد باسم المرجع الديني الراحل السيد الخوئي زعيم الحوزة الدينية الذي اتخذه محلا لالقاء ابحاثه ودروسه ومكانا لاقامة صلاة الجماعة بامامته..
لا يعرف على وجه الدقة السبب من وراء تسميته بالخضراء او الخضرة وهناك اراء عدة حول ذلك منها ما قاله الشيخ محمد حرز الدين وكان يطلق عليه اسم مسجد الخضراء والسبب يعود لقيام أحد الهنود بزرع الساحة المتصلة بالمسجد بالخضرة ونتيجة لذلك اطلق عليه اسم الخضرة، وقيل اسم الخضراء جاء نسبة الى المرأة التي قامت ببنائه واسمها الخضراء والله اعلم.. وكذلك الحال بالنسبة لبنائه فقد ذكر السيد حسون البراقي ان عليان ابن المظفر النجار هو الذي بناه حيث نقل عن ابن طاووس ان عليا هذا كانت له حصة في صنيعة فأخذت منه غصبا فدخل الى مرقد امير المؤمنين شاكيا وقال (السلام عليك يا امير المؤمنين ان ردت هذه الحصة عليَّ عملت مسجدا من مالي) فردت الحصة عليه .. وقيل انه غفل مدة ثم ما لبث ان قام بعمله وبنى هذا المسجد ايفاء لنذره.

المسجد ومراحل الاعمار
يقع مسجد الخضراء في منطقة التقاء الضلع الشمالي بالشرقي من السور الخارجي المحيط بالعتبة العلوية المقدسة لذا فهو من اقدم المساجد الموجودة في النجف الاشرف كان المسجد ولا يزال يطل بجبته الخلفية على الصحن الحيدري الشريف وعنها يقول الشيخ حرز الدين (كانت ارض المسجد في القرن السابق الهجري مساوية لأرض الصحن قبل دفنه وقد كان بابه الصغير القديم من الصحن الشريف في دهليز ضيق تحت ايوان الحجرة الثانية في اقصى شمال الحجرة الشرقية ويؤدي الى فضاء واسع من توابع اوقاف الصحن حيث يقع المسجد في هذا الفضاء ويتكون المسجد – قديما – من ثلاث اسطوانات من الآجر ترفع بناءً منخفضا نوعا ما وفي سنة 1352هـ اي في سنة 1934م جدد بناء هذا المسجد على نفقة الاوقاف وباشراف الحاج محسن شلاش النجفي وفي شهر رجب سنة 1368هـ هدمت الحكومة المحلية ثلثا من مساحته عند فتح الشارع الذي يمر من امام المسجد ففتحت له باب على هذا الشارع.
وفي سنة 1384هـ 1965م هدم مسجد الخضراء وتوابعه بالكامل وشيد من جديد تشيدا ضخما بالخرسانة المسلحة وبني له طابقٌ علويٌ ليكون مكتبة ضخمة تضم بين جنباتها العديد من الكتب التي يمكن ان يستفيد منها طلبة العلم والراغبون في ذلك، وكانت هذه الاعمال قد قام بها زعيم الحوزة العلمية السيد ابو القاسم الخوئي وتحت اشراف الشهيد احمد الانصاري وقد ارخ عمارته السيد موسى بحر العلوم بقوله:

احق بتقديسه للصلاة             بيــن الغــــريين لا المــــقــــدس
غداة تجدد تاريخه                  (تباركت من مسجد اقدس)
أما المسجد اليوم فهو حرم مغلق كبير مستطيل الشكل المحراب يكون يسار الداخل الى المسجد مغلف بالكاشي الكربلائي المزخرف وعلى يمين الواقف امام المحراب هنالك باب تؤدي الى الصحن الشريف مع وجود ايوان مسقوف كبير استغل ليكون مقبرة السيد الخوئي وانجاله وصهره السيد نصر الله المستنبط قدس سرهم جميعا اما الغرفة الخلفية الكبيرة استغلت لتكون مكانا لوضوء المصلين، وفي اواخر الثمانينيات بدأت حملة كبيرة لترميم المسجد ومن ثم اعيدت صيانة وتأهيل المسجد في التسعينات ثم فتح لمدة محدودة ثم اعيد اغلاقه بامر سلطات النظام البائد تحت عنوان وبيافطة كتبت على لوحة امام المسجد (المسجد مغلق للتعمير) وفي الواقع كان مكتمل الاعمار ولكن السلطة الجائرة انذاك لم تكن ترغب بفتحه مرة اخرى لما كان له اهمية ودور عند اهل النجف والزائرين لها وكان ذلك مصدر ازعاج وقلق للنظام القمعي في ذلك الوقت.

أئمة المسجد
صلى في المسجد كإمام الشيخ محمد حسن بن الشيخ موسى الشرقي المتوفي سنة 1277هـ-1860م فترة من الزمن كما كان الشيخ جعفر التستري يلقي فيه مجالس الوعظ والارشاد.
ولكن في الفترة التي ازدهر فيها المسجد على مدى التاريخ القريب كانت عندما اتخذه السيد الخوئي موضعا لالقاء بحثه الحوزوي واقامة صلاة الجماعة ولم استطيع تحديد الزمن الذي بدأ به السيد الخوئي بالصلاة والقاء الدروس في المسجد.
كان السيد الخوئي يقيم صلاة الجماعة في المسجد ظهرا وليلا واحيانا ينشغل ربما لعلة او طارئ او مرض او غيره فيبعث من ينوب عنه في الصلاة ففي السبعينات كان ينوب عنه اسد الله المدني وفي الثمانينات كان ينوب عنه صهره السيد نصر الله المستنبط. وفي بعض الروايات دخل مرة الدكتور محمد التيجاني السماوي في اول رحله له الى النجف في مرحلة الاستبصار التي انارت بصره كان دخوله الى مسجد الخضرة فسجل انطباعاته قائلا: (ادخلني صديقي الى مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالسجاد وفي محرابه ايات منقوشة بخط جميل، ولفت انتباهي مجموعة من الصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون وكل واحد في يديه كتاب فاعجبت بذلك المنظر الجميل ولم يسبق لي ان رأيت شيوخا بهذا السن اعمارهم تتراوح بين الثالثة عشر والسادسة عشر وقد زاهدهم جمالا ذلك الزي فاصبحوا كالاقمار فسألهم صديقي عن السيد ولم افهم من هو ذلك السيد الذي سألهم عنه وعرفت فيما بعد انه السيد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعية ثم يضيف.. ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار وقام الصبيان وقمت معهم وتقدموا من السيد يقبلون يديه)
ومن المرويات ايضا يقول احد طلبة العلم في احدى السنوات كنت في خدمة السيد الخوئي وكان شهر محرم الحرام كان يرتدي السواد من قدمه الى راسه وكان الجو حارا والملابس السوداء ترفع من حرارة الجسم فقلت له سيدي اليس بالإمكان تخفيف الملابس السوداء فانها قد تؤذيكم خصوصا الجو حار وانت تنصب عرقا فقال السيد لقد كان والدي يلبس السواد من اسفل قدمه وحتى الرأس وهذا اقل العزاء لسيدي ومولاي الحسين سيد الشهداء في شهري محرم وصفر.

السيد الخوئي(قدس سره)
لقد واجه السيد الخوئي فترات عصيبة وبخاصة في اواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات حيث بدأ النظام الصدامي انذاك بتضييق الخناق على متنفسات الحوزة العلمية فعمليات التهجير القسري وسلب الممتلكات ثم الحرب مع ايران وتداعياتها، وقد حورب السيد الخوئي حتى حاول النظام اغتياله اكثر من مرة ولكن الله حفظه ليحفظ العراق واهله ولكن لم يسلم اهله وذويه من تلك المحاولات حتى طالت يد الاجرام اغلب مساعدي السيد واعوانه امثال الشهيد الشيخ محمد تقي الجواهري والشهيد احمد الانصاري والشهيد السيد محمد تقي الجلالي والشهيد السيد محسن الميلاني والشهيد السيد محمود الميلاني صهر السيد واخيرا جاءت حرب الكويت ومن ثم الانتفاضة الشعبانية التي اضطلع السيد الخوئي بمسؤوليته لحفظ الامن في النجف الا ان الانتفاضة قمعت بأقسى الوسائل العسكرية ثم القي القبض على السيد ونقل الى بغداد لملاقاة صدام وقد استشهد ولده السيد ابراهيم وغيب في مقابر جماعية الا ان السيد وبعد عودته من مقابلة صدام في بغداد لم يلبث سوى مدة قصيرة ليلقى ربه راضيا مرضيا شهيدا محتسبا في الثامن من شهر صفر 1413هـ في اب 1992م ودفن في جانب المسجد الذي قضى اغلب سنن حياته فيه بالدرس والصلاة في صحن جده امير المؤمنين عليه السلام بعد ان صلى على جثمانه الطاهر السيد السيستاني دام الله بقاءه فرحمك الله يا سيدي يا ابا القاسم الخوئي كنت عالما مجاهدا ومؤمنا صادقا.

نشرت في الولاية العدد 99

مقالات ذات صله